موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام(2- الإنسان كادح مكابد في هذه الحياة)
الوصف
الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام
2- الإنسان كادح مكابد في هذه الحياة
الباب الثاني: الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية >> الفصل التاسع: في الإنسان بوجه عام >>
2- الإنسان كادح مكابد في هذه الحياة
دل البيان القرآني وأثبت الواقع المشاهد أن الإنسان كادح مكابد في كل ظروف هذه الحياة الدنيا، منذ نشأته حتى انتهاء أجله، وراحة الإنسان في هذه الحياة كراحة المسافر إذا حط رحله للزاد والماء، ونوم على قلق، أما طريق سفره ففيها الوادي والجبل، والسهل الوعر، والحر والبرد، والليل والنهار، والغيم والصحو، والجفاف والوحل، والخوف والأمن، والنسبة الغالبة كدٌ وتعب.
قال الله تعالى في سورة (البلد 90):
(لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)) .
وقال تعالى في سورة (الانشقاق 84):
(يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)) .
في كبد: الكبد الشدة والمشقة والضيق.
كادح: الكدح العمل والسعي بنصب ومشقة في كسب خير أو اكتساب شر. فالكادح هو العامل الساعي الذي يعاني في كدحه تذليل الشدائد، وتحمل المشقات، والخروج من المضايق.
في هذين النصين يبين الله تعالى أنه خلق الإنسان ضمن ظروف هذه الحياة الدنيا في محيط من الكبد، أي في محيط من الشدة والمشقة والضيق، لذلك فهو بحاجة لتحقيق مطالبه من خير أو شر إلى الكدح، أي إلى السعي والعمل بنصب ومشقة.
وإذ خلقه الله في محيط من الكبد فهو كادح في حياته كدحًا يتحمل به آلام المتاعب والمشقات، ومصير كدحه إلى ربه، ويومئذٍ يلقى جزاء كدحه. فإن كدح في طلب الخير ابتغاء مرضاة ربه نال ثوابه عنده أجرًا عظيمًا في جنات النعيم، وإن كدح في طلب الشر إرضاء لأهوائه وشهواته نال عقابه عند ربه بالعدل، وكانت النار مثواه.
حقًّا لقد خلق الله الإنسان في كبد، فهو يكابد ما في هذه الحياة الدنيا من متاعب ومشقات بكدح شديد. وكدحه إما أن يكون في سبيل الخير ومرضاة الرب، وإما أن يكون في سبل الشر والإثم والعدوان واتباع خطوات الشيطان.
إن الإنسان يمر في سلسلة من المتاعب والمشقات التي يعانيها ويكابدها منذ نشأته.
لقد كابد قبل أن يعرف نفسه اجتياز كل عقبة حوله، حتى أصبح إنسانًا فعرف نفسه. كابدت جرثومته الأولى سباقًا عنيفًا بينها وبين الملايين من أشباهها، حتى استطاعت أن تشق طريقها إلى الحياة الإنسانية. وحين تطورت فأصبحت جنين إنسان كابدت مشقات السجن المحدود والقيد المشدود في بطن الأم. ولما تكامل الجنين ونضج وأراد الله له أن يتنسم نسيم الحياة على الأرض الواسعة كابد مشقات النفوذ من المضايق الشديدة عند الولادة. وما أن دب على ظاهر الأرض حتى أحاطت به مشقات أكثر عددًا وأشد قسوة.
وكلما تدرج في أطوار النمو عظمت أمامه العقبات، وتطلبت منه الحياة مكابدة أعظم. وكلما زادت لديه تجارب الكدح والمكابدة في مصارعة مشقات الحياة واجتياز عقباتها ومغالبة كل معارضة أو منافسة، ظهرت في نفسه دوافع جديدة تسوقه إلى مغامرات جديدة، يكابد فيها آلامًا جسامًا، فهو في تطلع مستمر إلى الاستزادة، كلما انتهى به سعيه إلى جديد، ولذله ذلك الجديد، نما في نفسه الحرص والطمع، فأخذ يكابد مشقات أخرى لتحصيل مطالب أخرى للنفس أو للفكر أو للجسد، للدنيا أو للآخرة، فهو في مكابدة مستمرة وكدح لا ينتهي إلا بموته.
هذه حقيقة مشاهدة في السلوك الدائم للإنسان، وهي التي جعلت المعري يقول:
تعب كلها الحياة فما أعـ ـجب إلا من راغبٍ بازدياد
نعم، فالإنسان حريص على البقاء، ومن أجل ذلك فهو يتحمل أنواعًا من الكدح والمكابدة للحصول على الرزق، وفي مكابدته وكدحه يصطدم بعقبات كثيرة، فإن وصل إلى ما يشتهي كابد مشقات الحفظ والحماية من أيدي الظالمين، وإن لم يصل إلى ما يشتهي كابد آلام الفقد والحرمان.
وفي حياة الإنسان أنواع أخرى كثيرة من المكابدات التي يكابدها.
للحب مكابدة وكدح، وللكراهية مكابدة وكدح، وفي الجود مكابدة، وفي الشح مكابدة، وفي الصبر مكابدة، وفي الضجر مكابدة، وفي الطمع مكابدة، وفي القناعة مكابدة، وفي طاعة الله وفعل الخيرات مكابدة وكدح، وفي معصية الله وفعل الشر مكابدة وكدح.
إن معظم ظروف الحياة تتطلب من الإنسان مكابدة وكدحًا، وصدق الله العظيم: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) . (يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ) .
وما دام الإنسان في ظروف الحياة التي تتطلب منه أن يكون كادحًا في الخير أو في الشر، فإن العقل السديد والرأي الرشيد يوجبان عليه أن يكدح كدحًا يحقق له النجاح في الدنيا، وأكبر حظٍ من سعادة النفس فيها، ثم يحقق له مرضاة الله والسعادة الخالدة عنده يوم الجزاء الأكبر.
(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)) وهم أهله في جنة النعيم.
(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)) أي يدعو على نفسه بالهلاك الدائم الذي لن يحصل عليه، لما يرى من العذاب الأليم في دار الجزاء.