موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام(1- خلق الإنسان ونشأته، والغاية من خلقه)
الوصف
الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام
1- خلق الإنسان ونشأته، والغاية من خلقه
الباب الثاني: الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية >> الفصل التاسع: في الإنسان بوجه عام >>
الإنسان بوجه عام
تحدث القرآن عن الإنسان بوجه عام، فأبان أصل نشأته ووجوده، والغرض من خلقه مزودًا بما خلق فيه من صفات وخصائص، وذكر جملة من صفاته وخصائصه التكوينية التي فطره الله عليها، وجملة من الصفات الكلية العامة التي تنتج عن سلوكه الإرادي، وما يختار لنفسه في الحياة، وأعطى أمثلة وقواعد هي مثابة ظواهر اجتماعية تشتمل على أحكام عامة أغلبية، ليس فيها تعيين وليس فيها تحديد، كشأن الأحكام النسبية التي تقدمها بعض الإحصاءات العلمية للمجموعات البشرية.
ونستعرض في الفقرات التاليات طائفة مما جاء في القرآن عن الإنسان.
1- خلق الإنسان ونشأته، والغاية من خلقه
أبان الله لنا في القرآن كيف خلق الإنسان الأول، وأن الإنسان قد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا، وأبان لنا أن خلق من الإنسان الأول زوجه، وأنه بث منهما عن طريق التناسل المشهود لدى السلالات الإنسانية رجالًا كثيرًا ونساءً، وذكر لنا الغاية من خلقه.
خلق الإنسان:
أما بدء خلق الإنسان فقد مر في مراحل:
فالعنصر الأول من العناصر التي تكون منها هو الماء، والعنصر الثاني هو التراب، والتراب يحتوي على جملة من مختلف عناصر الأرض.
ثم كانت مرحلة الطين اللازب، أي المتماسك اللزج، الذي يلتصق بعضه ببعض.
ثم تغير الطين فصار حمأً، أي إنه اسودّ وصارت له رائحة منتنة.
ثم صار الحمأ مسنونًا، أي صارت له صورة معينة، وأخذ شكلًا خاصًا، والمسنون هو المصور، وكذلك المملس.
ثم جف وصار صلصالًا كالفخار، والصلصال هو الطين اليابس من غير أن يطبخ بالنار، وسمي صلصالًا لأنك إذا نقرته صل، أي صوت من يبسه.
ثم نفخ الله فيه الروح من لدنه، فكان بشرًا سويًّا، ذكرًا.
ثم خلق منه زوجه الأنثى، على مثل صورته وصفاته، باستثناء الأنوثة وخصائصها.
ثم بث منهما رجالًا كثيرًا ونساءً عن طريق التناسل، من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة، ثم جنينًا كاملًا دبت فيه الروح البشرية، فإذا تمت دورة حمله نزل من بطن أمه وليدًا يستهل صارخًا.
وبين المراحل البارزة هذه أطوارٌ من الخلق، منها ما اكتشفه البحث العلمي، ومنها ما لا يزال غيبًا في علم الله الخالق عز وجل.
أما ما دل على هذه الحقائق من القرآن ففيما يلي بيانه:
* أولًا:
لم يكن الإنسان شيئًا مذكورًا ثم وجد، دل على هذه الحقيقة قول الله تعالى في سورة (الإنسان 76):
(هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1)) .
أي: إن الإنسان بخصائصه التكوينية التي هو عليها لم يكن شيئًا مذكورًا، سواء في ذلك نوعه وكل فرد من أفراده، فلقد مر عليه حين مديد من الدهر السحيق في أغوار الزمن الماضي لم يكن للإنسان فيه وجود، ولم يكن شيئًا مذكورًا مطلقًا، إذ كان في بحر العدم المحض الذي لا حدود له.
وقد جاء هذا البيان على طريقة التساؤل؛ لأنتزاع الجواب من منصفي أهل العلم وأهل النظر. والجواب الحتمي: نعم لقد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا.
هذا هو واقعه، إذ لو كان له وجود لعرف هذا الوجود، ولكان له ذكرٌ ما، ولكنه لم يكن له وجود، ولم يكن شيئًا مذكورًا، وصفاته تدل على أنه كائن حادث غير قديم، لا في أفراده، ولا في نوعه، ولا في العناصر الأصلية التي يتكون منها، بهذا تشهد الدراسات العلمية الحديثة والحقائق الفلسفية والرياضية.
وإذا ثبتت هذه الحقيقة لزم عنها أن الإنسان لا بد له من محدث يحدثه، وخالق يخلقه؛ لأن الفلسفة الفكرية والبحث العلمي يثبتان أن كل شيء لم يكن موجودًا ثم وجد بعد ذلك لا بد له من موجد قد أوجده، أي: لا بد له من خالق قد خلقه، إذ العدم المحض لا يصلح بذاته أن يتحول إلى الوجود، لكن الخالق الذي له الوجود الثابت الدائم هو الذي يوجد الأشياء من العدم، بما لديه من قدرة وإرادة وعلم وحكمة وفيض إنعام.
والاستفهام في "هل أتى" قيل فيه: إن هل بمعنى (قد) وقد روي هذا عن ابن عباس، وذكره جماعة من المفسرين، إلا أني أرى إبقاءه على بابه، وهو ما ذهب إليه كثير من المفسرين، وقال ابن هشام في كتابه "مغني اللبيب": وهذا هو الصواب عندي.
والظاهر أن ما صوبه ابن هشام يبقي الآية في مستواها البلاغي الرفيع، إذ تفتتح سورة (الإنسان) باستفهام لا جواب له إلا (نعم). وهذا ألطف سبيل لانتزاع الاعتراف بالحقيقة، وأقوى وأوقع من تقديم الحقيقة على شكل تقرير قد يتطلب في نفس السامع إقامة الدليل عليه.
* ثانيًا: الماء هو العنصر الأول من العناصر المادية التي تكون منها خلق جسد الإنسان، كما هو العنصر الأول الذي خلق منه كل كائن حي حادث، وهو المرحلة المادية الأولى في الخلق.
دل على هذه الحقيقة نصوص متعددة من القرآن الكريم، فقبل خلق السماوات والأرض كان عرش الرحمن على الماء، فدل هذا على أن الماء طور من الخلق سابق على خلق السماوات والأرض، قال الله تعالى في سورة (هود 11):
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ... (7)) .
والعلم يقول: إن الماء أبسط العناصر المادية، إذ يتألف من ذرتين.
وفي كون الماء هو المادة التي خلق الله منها كل شيءٍ حي، يقول الله تعالى في (سورة الأنبياء 21):
(وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ (30)) .
ويتناول هذا أبسط الأشياء الحية، حتى أبسط النباتات.
وفي كون الماء هو المادة التي خلقت منها الدواب، والدواب التي تدب على الأرض أصناف مرتقية في الكائنات الحية، يقول الله تعالى في سورة (النور 24):
(وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)) .
والإنسان قمة المخلوقات الحيوانية في الأرض، وقد خلقه الله من الماء، أي: إن الماء هو المادة الأولى التي تكون منها خلقه، وفي بيان هذه الحقيقة يقول الله تعالى في سورة (الفرقان 25):
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)) .
* ثالثًا:
التراب هو العنصر الثاني من العناصر التي تكون منها خلق جسد الإنسان.
فالإنسان الأول كان التراب عنصرًا من عناصر تكوين خلقه، وفي بيان هذه الحقيقة يقول الله تعالى في سورة (آل عمران 3):
(إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)) .
وفي كون التراب عنصرًا أساسيًّا من عناصر تكوين كل إنسان بعد آدم، إذ من التراب النبات، ومن النبات الغذاء، ومن الغذاء الدم، ومن الدم النطفة، ومن النطفة الجنين؛ وفي هذا يقول الله تعالى في سورة (فاطر 35):
(وَاللهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا (11)) .
ويقول تعالى في سورة (غافر 40):
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)) .
ويقول في سورة (الروم 30):
(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ (20)) .
* رابعًا:
ومن امتزاج عنصري الماء والتراب يتكون الطين، فالطين هو المزيج الذي تكون منه خلق جسد الإنسان.
والطين مؤلف من ماء وحفنة من تراب الأرض، وهذا التراب يجمع جملة من عناصر الأرض بنسبٍ ومقادير على وفق علم الله وحكمته.
وفي بيان هذه الحقيقة يقول الله تعالى في سورة (السجدة 32):
(ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (9)) .
ومرحلة الطين هذه في بدء خلق الإنسان الأول وصفها الله بأنها طين لازب -أي طين لاصق بعضه ببعض متماسك لزج- فقال تعالى في سورة (الصافات 37):
(إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ (11)) .
وقال تعالى في سورة (ص 38):
(إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)) .
* خامسًا:
وبعد مرحلة الطين تأتي مرحلة الحمأ المسنون، والحمأ هو الطين الأسود المنتن، والمسنون هو المصور، أو المملس.
وفي بيان هذه المرحلة من خلق الإنسان الأول قال الله تعالى في سورة (الحجر 15):
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (26)) .
فالطين مر في أطوار تغيرت فيها رائحته واسودّ حتى صار حمأ، ثم صار مملسًا مصورًا بخلق الله، فصار حمأ مسنونًا.
* سادسًا:
وبعد مرحلة الحمأ المسنون، تأتي مرحلة جفاف الطينة ويبسها، حتى صارت صلصالًا، إذا نقرته صوت من يبسه، وهذا الصلصال يشبه الفخار إلا أنه ليس فخارًا؛ لأن الفخار مطبوخ بالنار بخلاف الصلصال، فهو طين يابس غير مطبوخ بالنار، وفي بيان هذه المرحلة قال الله تعالى في سورة (الرحمن 55):
(خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14)) .
وهذا بالنسبة إلى الإنسان الأول، أما بالنسبة إلى السلالات ال