موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية:في العقل(العقل العلمي والعقل الإرادي)
الوصف
الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في العقل
العقل العلمي والعقل الإرادي
الباب الثاني: الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية >> الفصل الثامن: في العقل >>
في العقل
العاقل في اللغة: هو الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها، والجامع لأمره ورأيه. والعقل ضد الحماقة.
وأصل مادة الكلمة يدور حول معنى الإمساك بالشيء وحبسه وربطه، مأخوذ من معنى ربط الدابة بعقالها، تثبتًا لها وحبسًا لها عن الشرود.
والعقل: الحجر والنهى، وسمي عقلًا لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك، أي يحبسه.
ولدى تتبع الاستعمالات القرآنية لمشتقات هذه المادة نلاحظ أنها استعملت بمعنى عقل المعنى، أي: فهمه وربطه وتثبيته في الدائرة التي من صفاتها التفكر والفهم والمعرفة والعلم، والتمييز بين الحق والباطل والخير والشر، وتثبيت المعلومات وتذكرها عند الحاجة.
ونلاحظ أنها استعملت بمعنى عقل النفس وحبسها عن أن تنطلق مع الهوى إلى ما فيه شر أو ضر أو أذى، عاجل أو آجل.
فحبس النفس عن معصية الله من العقل، وضبط النفس بقوة الإرادة من العقل، والصبر من العقل، والحكمة في تصريف الأمور من العقل.
فالعقل على هذا المعنى ينطبق على الإرادة الحازمة القوية القادرة على ضبط النفس، المستندة إلى نتائج العقل العلمي الواعي، وما انتهى إليه من حقائق فهمها ووعاها وعقلها، وقدم بها نصحه للعقل الإرادي.
فالعقل عقلان: عقلٌ علمي، وعقل إرادي.
والعقل الإرادي لا يكون عقلًا حقًّا ما لم يستند إلى نتائج العقل العلمي، وإلا كان إرادة جانحة رعناء حمقاء مهما كانت حازمة وقوية، ولا بد أن تكون حينئذٍ خاضعة لهوى من أهواء النفس، وقد يكون هذا الهوى خفيًّا، كهوى الاستبداد وحب التسلط، وهوى الرغبة بقهر النفس لاكتساب مجدٍ ما عند الناس.
والعقل العلمي قد لا يقترن بالعقل الإرادي، إذ قد يتوصل الإنسان إلى معرفة علمية حقة، ويعقلها، إلا أنه يكون عاجزًا عن ضبط نفسه وحبسها عن الانطلاق مع أهوائها وشهواتها التي تدفع به إلى مهالكه، وتقذف به إلى سوء المصير.
مع دلالات النصوص القرآنية
* أولًا:
فمن النصوص التي دلت على العقل العلمي ما يلي:
1- قول الله تعالى للمؤمنين بشأن فريق من اليهود في سورة (البقرة 2):
(أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)) .
فهذا الفريق من اليهود يحرفون كلام الله فيتأولونه على غير تأويله، من بعد ما عقلوا معناه المقصود، إذ فهموه فهمًا جليًّا واضحًا، وثبت هذا الفهم في أذهانهم، ولكن غلبهم الهوى، فحرفوا معناه إلى ما يهوون، وهم يعلمون من أنفسهم أنهم يحرفون، فتحريفهم عمل مقصود.
فهم قد ملكوا عقلًا علميًّا، ولكنهم لم يملكوا عقلًا إراديًّا يعقلهم عن هواهم.
2- وقول الله تعالى في سورة (العنكبوت 29):
(وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ (43)) .
وقد جاء هذا بعد مثل ضربه الله للذين اتخذوا أولياء من دون الله، فقال تعالى:
(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)) .
فقول الله تعالى: (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ) : يدل على أن هذه الأمثال إنما يعقلها عقلًا علميًّا، أي يفهم دلالاتها المرادة فهمًا صحيحًا، ويمسك بها في دائرة المعرفة العالمون. فالباحثون العلميون عن المعرفة والمتتبعون لها، والمهتمون بشأن معرفة الحقائق هم الذين يعقلون الأمثال التي يضربها الله للناس، أي يفهمونه فهمًا صحيحًا، ويعقلون ما فهموه في دوائر العلم في نفوسهم.
3- وقول الله تعالى حكاية للحوار الذي جرى بين موسى عليه السلام وفرعون في سورة (الشعراء 26):
(قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنْتُم مُّوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)) .
اتهم فرعون موسى عليه السلام بالجنون؛ لأنه سأله عن حقيقة رب العالمين، فأجابه بآثار صنعته، وبأنه خالق السماوات والأرض وما بينهما والمهيمن عليهما بربوبيته، ولم يجبه عن حقيقة ذاته، فرد موسى على فرعون ردًا مهذبًا، أكد فيه أن الرب الخالق يكفي لإثباته مظاهر صفاته في خلقه، ويدرك هذه الحقيقة الذين يعقلون، أي الذين لديهم عقل علمي يفهمون به حقائق الدلالات، وينتقلون من الآيات الظاهرات إلى ما تدل عليه هذه الآيات، ثم يمسكون بهذه الحقائق ويثبتونها في دوائر العلم لديهم.
فإن كنتم تعقلون فهمتم ذلك وكفتكم هذه الآيات البينات، وإذا لم تفهموا ذلك فأنتم لا تعقلون، أي فأنتم الذين تستحقون الوصف بالجنون، ولكن موسى عليه السلام كان مهذبًا في رده، إذ اكتفى بمتابعة استدلاله، مع ربط وجود الفهم بشرط وجود العقل العلمي السليم.
* ثانيًا:
ومن النصوص التي دلت على العقل الإرادي المستند إلى العقل العلمي ما يلي:
1- خاطب الله علماء بني إسرائيل بقوله في سورة (البقرة 2):
(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (44)) .
أي أتأمرون الناس بفعل البر –وهذا يدل على أنهم يعلمون البر، فهم يأمرون الناس به على علم- وتنسون أنفسكم؟! أي فلا تأمرونها كما تأمرون الناس، مع أنكم مكلفون بما تأمرون الناس به، فأنتم أسبق منهم علمًا وأوسع منهم معرفة، وأنتم تتلون الكتاب، فتستزيدون من تلاوته علمًا وتذكرًا.
أفلا تعقلون؟! أي أفليس لديكم عقل إرادي تستطيعون به عقل نفوسكم عن اتباع أهوائها وشهواتها، واتباع خطوات الشيطان إلى معصية الله تعالى، وإلى ما فيه هلاككم وعذابكم عند ربكم.
2- وقال الله تعالى في سورة (يونس 10):
(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآَمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (100)) .
أي: ولو شاء ربك مشيئة قدرية أن يؤمن جميع من في الأرض لجعلهم مجبورين غير مختارين، ولسلبهم حرية الاختيار التي وهبهم إياها، وعندئذٍ يكونون جميعًا مؤمنين إيمانًا جبريًّا لا إيمانًا اختياريًّا.
أفأنت يا محمد تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين، وهو شيء لم يختره الله لنفسه، بعد أن قضت حكمته أن يجعلهم مخيرين غير مجبورين ليمتحنهم بالتكاليف، ثم ليجازيهم على اختيارهم الإرادي.
(وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ) أي: وإذن الله في إيمان النفوس مقرون باختيارها للإيمان، ولا يكون عن طريق إجبارها لأنه مخالفٌ لسنته في خلقه، فهو لا يأذن به، فلا فائدة إذن من اللجوء إلى طريق الإكراه.
(وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ) : أي فالذين يتبعون أهواء نفوسهم وشهواتها، ويستجيبون لدواعي الكبر والفجور فيها، ولا يكون لديهم إرادة حازمة عاقلة تعقلهم عن مزالق الكفر والفسوق والعصيان، تقضي سنة الله فيهم أن يجعل عليهم رجس الانتكاس والارتكاس والطرد من مواطن الرحمة.
فهؤلاء لم ينقصهم العلم بقضايا الإيمان، وإنما لم يستعملوا إراداتهم في ضبط نفوسهم وحبسها وعقلها في طريق الهداية الربانية، ومنعها عن اتباع أهوائها وشهواتها، والاستجابة لوساوس الشياطين وتسويلاتهم.
3- وفي شأن الذين كانوا ينادون الرسول صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات وهو فيها مشغول بشؤونه الخاصة، قال الله لرسوله في سورة (الحجرات 49):
(إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)) .
الظاهر من دلالات هذا النص أن هؤلاء الذين كانوا ينادون الرسول صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات، لبعض مسائلهم، كانوا من الذين ليس لديهم صبر حتى يخرج الرسول إليهم، فهم يستعجلون قضاء حوائجهم بالنداء.
وعدم صبرهم ناتج عن أنهم لا يملكون إرادات قوية حازمة تضبط نفوسهم، وتعقلها عن التسرع غير المحمود، لذلك وصفهم الله بقوله: (أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ) .
فنفي العقل هنا نفي للعقل الإرادي على ما يظهر والله أعلم.
4- وفي شأن الذين اتخذوا دين المسلمين أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب من قبلهم والكافرين الآخرين، قال الله تعالى في سورة (المائدة 5):
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ (58)) .
فالظاهر من نفي العقل عن هؤلاء أنه نفي لعقلهم الإرادي، الذي يمنع العاقل عادة من أن يتورط في قبيحه الاستهزاء بمن يعبدون الله، مؤمنين به متجهين له.
وذلك لأن أهل الكتاب منهم يؤمنون بالله على طريقتهم، فليس من شأنهم أن يستهزئوا على أساس أنهم يستسخفون عمل المسلمين من الناحية الفكرية. ولأن الكفار منهم يعبدون الأوثان فأجدر بهم أن يستهزئوا من أنفسهم.
لم يبق إلا أنهم يستهزئون استجابة لدوافع نفسية لم تجد لديهم عقلًا إراديًّا.