موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية:في اللب(في اللب)
الوصف
الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في اللب
في اللُّبِّ
الباب الثاني: الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية >> الفصل السابع: في اللب >>
في اللُّبِّ
اللب هو الدائرة الواقعة في عمق مركز التفكير، وهو مركز استقرار المعرفة العلمية، ومركز التذكر، ومركز الاعتبار والاتعاظ والذكرى، وعنه تصدر النتائج الفكرية إلى الفؤاد، والقلب، والصدر، لتحريك العواطف، وتنبيه الإرادة صاحبة السلطة في توجيه السلوك.
ومن خلال النصوص القرآنية التي ذكرت فيها الألباب نستطيع اكتشاف المراد من اللب، ومعرفة خصائصه داخل النفس الإنسانية:
* أولًا:
اللب هو مركز التذكر، ولولا أنه مركز استقرار المعرفة العلمية، وميزان استخراج المعرفة بما أودع الله فيه من أصولها، والمقياس الصالح لقبول الحق ورفض الباطل، بما لديه من أصول فطرية يتذكرها ويقيس عليها، لما كان مركز التذكر. وفي كون اللب مركز التذكر وردت ستة نصوص قرآنية، وهي:
(أ) قول الله تعالى في سورة (البقرة 2):
(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الألْبَابِ (269)) .
فحصر الله التذكر النافع لصاحبه، والذي يمده بالحكمة في السلوك، بأولي الألباب، والحكمة في السلوك هي وضع الأشياء في مواضعها، وهذا لا يكون إلا إذا استندت الإرادة العاقلة إلى ما يقدمه اللب لها من تذكر للمعرفة.
(ب) وقول الله تعالى لرسوله في سورة (آل عمران 3):
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الألْبَابِ (7)) .
فتذكر أولي الألباب هنا، هو استدعاؤهم لما يعرفون من أصول يقينية عن الله وصفاته ودلالات المحكمات من آياته، ليحملوا ما تشابه عليهم على ما هو محكم غير متشابه، وما ظل غامضًا لديهم يؤمنون به كلامًا منزلًا ويقولون: آمنا به، كل من عند ربنا، ويرفضون المعاني التي ثبت لديهم وجوب رفضها في المحكمات من آيات الله، وفي أصول الفكر اليقينية القطعية.
(ج) وقول الله تعالى في سورة (الرعد 13):
(أَفَمَن يَّعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ (19)) .
فالذي يعلم أن ما أنزل إلى رسول الله من ربه الحق، هو الذي آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم إذ عرف دلائل صدقه، وتفكر فيما أنزل الله إليه فعرف أنه حق لا شك فيه، فاستقر ذلك في لبه، فهو يتذكره ويستدعيه عند كل سلوك يريده، لذلك جاء وصف أولي الألباب بعد هذه الآية بصفات سلوكية أمر الله بها المؤمنين:
(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)) .
(د) وقول الله تعالى في آخر سورة (إبراهيم 14):
(هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الألْبَابِ (52)) .
فهذا القرآن بلاغ للناس ليؤمنوا بربهم، وبما جاء فيه من عقائد ومبادئ وشرائع وأحكام، وليكون لهم منذرًا بما اشتمل عليه من آيات إنذار بعذاب الله لمن كفر وعصى، وليعلموا من آياته وما اشتملت عليها من دلائل فكرية وخبرية أنما الله إله واحد لا إله إلا هو، وليحفظ ما جاء فيه أولو الألباب، ويتذكروا أحكامه ونصائحه ووصاياه، عند كل سلوك يريدونه في حياتهم.
(هـ) وقول الله تعالى في سورة (ص 38):
(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ (29)) .
فهذا القرآن كتاب مبارك لاحتوائه على كل ما يسعد الناس، من توجيهات ونصائح وأوامر ونواهي وعظات لو اتبعوها وعملوا بها، وقد أنزله الله ليتدبر الناس آياته فيفهموا بعمق ما اشتملت عليه من دلالات لا ليهجروه، أو يكتفوا بترديده دون فهم وعمل. وليتذكر أولو الألباب ما وعوا مما تدبروا منه، ليعملوا بتوجيهاته ونصائحه وأوامره ونواهيه، عند كل سلوك يريدونه في حياتهم.
(و) وقول الله تعالى في سورة (الزمر 39):
(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ (9)) .
فالذين يعلمون هم الذين استقرت في ألبابهم المعارف، فهم يستدعون منها بالتذكر ما يحتاجون إليه عند كل سلوك يريدونه في حياتهم، حتى يكون سلوكًا حكيمًا موافقًا لما تنصح به المعرفة التي سبق لهم أن اكتسبوها.
* ثانيًا:
ولما كانت حقائق قرآنية كثيرة مما يتوصل إليه الفكر بالتفكير والتأمل، ثم يستقر في دائرة اللب منه، ولما كانت المستقرات في اللب تتعرض للنسيان بالنسبة إلى الذاكرة الحاضرة القريبة الاستدعاء، كان كثير مما جاء في القرآن ذكرى لأولي الألباب، أي: تذكيرًا لأولي الألباب، بحقائق هي لديهم في عمق ألبابهم، إلا أنها بعيدة عن ذاكرتهم، فهم بحاجة إلى التذكير بها.
وقد جاء بيان أن بعض ما في القرآن ذكرى لأولي الألباب في نصوص منها:
(أ) قول الله تعالى في سورة (الزمر 39):
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الألْبَابِ (21)) .
في هذه الآية تذكير ببعض مظاهر قدرة الله وحكمته في كونه، الدالة على وجوده وجليل صفاته، ولكن من يصل إلى هذه الحقائق إنما هم أولو الألباب، الذين يتفكرون ويتوصلون بالتفكير إلى ما تدل عليه متقنات هذا الكون، ثم تستقر في ألبابهم، وقد جاء القرآن بالنسبة إليهم مذكرًا.
(ب) وقول الله تعالى في سورة (غافر 40):
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لأُولِي الألْبَابِ (54)) .
فدل هذا النص على أن التوراة مثل القرآن تشتمل على هدى، وتشتمل على ذكرى لأولي الألباب.
* ثالثًا:
ولما كانت الألباب هي مراكز الدوائر العلمية الفكرية في النفوس الإنسانية، كانت أساسًا لخطاب الناس في قضايا المعرفة، ولما كانت الألباب هي المراكز الإرشادية لدوائر النفس الإنسانية، كانت أساسًا لخطاب الناس بأوامر التقوى والاستقامة على منهج السعادة الذي أمر الله عباده بالاستقامة عليه.
وفي هذا نجد عدة نصوص قرآنية، منها ما يلي:
1- قول الله تعالى في سورة (البقرة 2):
(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)) .
فأولو الألباب هم الذين يعرفون واقع المجتمع البشري، ويعرفون أن في إقامة حكم القصاص حياة للناس، وإذا عرفوا ذلك تحركت عواطفهم وفق ما ترشدهم إليه معرفتهم، وتوجهت وفق ذلك أيضًا إراداتهم، ما لم تصرفهم صوارف الأهواء والشهوات ونزغات الشياطين، ولذلك كان رجاء التقوى منهم احتماليًّا غير قطعي لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .
2- وقول الله تعالى في سورة (آل عمران 3):
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)) .
فأولوا الألباب هم الذين تظهر آيات الله لهم في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، وهم الذين يتفكرون في ذلك ليتوصلوا إلى حقائق المعرفة التي تصلهم بالله.
وهؤلاء هم أولو النهى الذين قال الله فيهم في سورة (طه 20):
(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لأُولِي النُّهَى (54)) .
وقال فيهم أيضًا في سورة (طه 20):
(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لأُولِي النُّهَى (128)) .
النهى: هي الألباب المدركة للمعارف.
3- وقول الله تعالى في سورة (يوسف 12):
(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُّفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُّؤْمِنُونَ (111)) .
فأولو الألباب هم الذين يدركون بألبابهم العبر التي تتضمنها قصص الأولين، فتكون لهم عظة.
4- وأمر الله أولي الألباب بالتقوى لأن ألبابهم هي التي تدرك الأمر، وتعرف الخير والشر، فقال الله تعالى في سورة (البقرة 2):
(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ (197)) .
وقال تعالى في سورة (المائدة 5):
(قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)) .