موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في القلب(خامسا)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في القلب(خامسا)
217 0

الوصف

                                                               الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في القلب

                                                                        خامسا
                                         الباب الثاني: الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية >> الفصل الرابع: في القلب >>

خامسًا:
والقلب إما أن يكون سليمًا طاهرًا بريئًا من العلل والأمراض، وعندئذ يكون الإنسان ممتعًا بعمق الصحة النفسية القلبية، والقلب السليم الطاهر هو القلب المؤمن بالله الذاكر له، المخبت الخاضع المطمئن المستسلم لأحكامه وشرائعه، الراضي بقضائه وقدره، الواثق بفضله ورحمته، البريء من خلائق السوء وإرادات المعصية، ونيات الإثم والفسوق والعصيان.

وإما أن يتعرض للعلل والأمراض، وتهبط درجات الصحة النفسية القلبية عندئذ إلى مستويات تناسب مقادير العلل والأمراض التي يتعرض لها القلب؛ فيصاب بالأدناس المختلفة، وهذه تسبب له أنواعًا من الأمراض على مقاديرها.

ومتى تكاثرت على القلب أدناس الإثم والعدوان وإرادات السوء والشر، أصابته الأمراض الخطيرة، أشدها ما يكون من نتائجه النفاق والكفر بالله.

ويمكن علاج القلب وشفاؤه، وعندئذٍ ينيب إلى ربه فإذا جاء العبد ربه وهو على توبته فقد جاءه بقلب منيب.

ودوام العلل المرضية في القلب يميت فيه حس الخير، فيقسو ويتصلب حتى يكون كالحجارة بل أشد قسوة، فإذا ذكر بالله واليوم الآخر لم يتحرك بشيء، واستمر فيما هو فيه من حب العاجلة والانصراف إلى زينتها لاهيًا، وفي غمرة مطبقة عليه من كل جانب، فهو لا يستجيب لداعٍ إلى الخير، ولا يستمع لأقوال واعظ بالحق، ولا مذكر يذكر الله.

هذه مفاهيم عن القلب دلت عليها نصوص قرآنية كثيرة:

(أ) فالقلب السليم الطاهر البريء من العلل والأمراض، دل عليه ما دعا به إبراهيم عليه السلام ربه، إذ قال في جملة دعائه كما أخبرنا الله تعالى في سورة (الشعراء 26):

(وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)) .

فمن أتى الله يوم يبعثون، بقلب سليم طاهر بريء من العلل والأمراض، وآثارها التي تتمثل بالكفر والفسوق والعصيان، فذلك هو الذي ينفعه عند ربه قلبه السليم.

وقد كان إبراهيم عليه السلام ذا قلب سليم، وجاء ربه بقلب سليم، بذلك وصفه الله تعالى، فبعد الكلام على نوح عليه السلام قال الله تعالى في سورة (الصافات 37):

(وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)) .

(ب) ويتدنس القلب بأدناس خفيفة تغسلها الطاعات، ويصاب بأدناس شديدة قوية مطبقة عليه، حتى لا تدع فيه جانبًا طاهرًا، وبينهما درجات.

فمن الأدناس الخفيفة ما يتعرض له من خواطر السوء، والميل نحو الإثم والمعصية، ولو لم يصل إلى مستوى التنفيذ والإرادة الجازمة، أشار إلى ذلك قول الله تعالى في سورة (الأحزاب 33):

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ .... (53)) .

غير ناظرين إناه: أي غير منتظرين وقت نضجه.

فدل هذا النص على أن سؤال نساء النبي من وراء حجاب، أطهر لقلوب السائلين وقلوب المسؤولات، فلولا وجود احتمال تدنس القلب عند المواجهة بميل غير مأذون به شرعًا لما وجه الله لهذا الأدب من آداب الإسلام.

وأشد الأدناس وأخبثها أدناس الكفر والنفاق وما يؤدي إليهما، وهذه الأدناس لا يطهر الله القلوب منها؛ لأنه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وإلى هذه الأدناس الشديدة التي قد تدنس بها القلوب أشار القرآن بقول الله تعالى في سورة (المائدة 5):

(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)) .

فهؤلاء قلوبهم مدنسة بأشد الأدناس وأخبثها، وهي أدناس الكفر، وما ينشأ عن الكفر من سلوك، وما يدفع إلى الكفر من أخلاق، وقد امتحنهم الله، فكشفوا عما في قلوبهم من أدناس، فمن العدل أن لا يطهر الله قلوبهم بالمغفرة، وأن لا يريد ذلك؛ لأن إرادته تتبع حكمته، وحكمة الله تقضي بأن لا يحكم ببراءة المجرمين بجريمة الكفر، فلهم في الدنيا خزي، ولهم في الآخرة عذاب عظيم.

ولكفر القلوب آثار هي من الأرجاس والأدناس، وهي نتائج طبيعية له، تحدث وفق السنن الربانية التي فطر الله النفوس عليها، لذلك قال الله تعالى في سورة (الأنعام 6):

(فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (125)) .

ويطفح الرجل على الكافر والمنافق، باعتبار أن سلوكه كله منسجم مع كفره، ولما كان كفره رجسًا كان سلوكه رجسًا، ومن اتصف في سلوكه بالرجس، فهو كله رجس، ولذلك قال الله تعالى في وصف المنافقين في سورة (التوبة 9):

(سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)) .

وسمى الله الكفر والنفاق رجسًا، فقال تعالى في سورة (التوبة 9):

(وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125))

أي: زادتهم كفرًا إلى كفرهم، ونفاقًا إلى نفاقهم.

(ج) ويتعرض القلب للأمراض، وأدنى الأمراض مرض الرغبة باللذة المحرمة التي يتوصل إليها بالفاحشة، وأخبث الأمراض وأشدها ما يجر إلى الكفر والنفاق.

ففي الإشارة إلى مرض الرغبة باللذة المحرمة، التي تكون بالفاحشة، قال الله تعالى لنساء النبي في سورة (الأحزاب 33):

(يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا (32)) .

أي: فيطمع الذي في قلبه رغبة بالفسق أو ميل إلى الفحش، أو ضعف تجاه النساء، وهذا من أمراض القلوب.

وفي الإشارة إلى الأمراض التي تسبب الكفر، قال الله تعالى لرسوله في سورة (الحج 22):

(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (54)) .

تمنى: تلا كتاب الله. ألقى الشيطان في أمنيته: ألقى في تلاوته.

هذا النص دل على حلقة من حلقات سنة الصراع بين الحق والباطل، ولما كان الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام قمة الدعوة إلى الله، كان لا بد أن يكون لهم أعداء من شياطين الإنس والجن، والعدو له وسائل كثيرة من الكيد، ولما كان كتاب الله هو النص المنزل لهداية الناس، فإن الشياطين يحاولون الكيد لهذا النص، بالتحريف والتبديل، والزيادة والنقص؛ لدعم ما هم فيه من إضلال وإفساد. إنهم يحاولون هذا بعد عصور الأنبياء والرسل، وقد نجحوا في غير كتاب الله القرآن؛ لأن الله لم يتكفل بحفظ تلك الكتب، إذ وضع في خطته سبحانه أن يختم الكتب المنزلة بالقرآن الذي يتكفل بحفظه.

أما في عصور الأنبياء والرسل فإنهم يحاولون أيضًا هذه المحاولة، ولكنهم لا ينجحون؛ لأن الله يحكم آياته على لسان رسوله، فلا يبقى لتحريفات الشياطين ولا لمحاولاتهم في ذلك أي أثر، وهذا لا يتعارض مع عصمة الرسل، والثقة بما يبلغون عن الله.

ومن صور هذه المحاولة الخبيثة أن يتلو الرسول كلام الله فيأتي شيطان من شياطين الإنس أو الجن، فينقل ما سمع من الرسول مضيفًا إليه من عنده جملًا مفسدة تدعم باطله، لكن الرسول موجود، والوحي يتنزل، فيذهب الناس إلى الرسول فلا يجدون في تلاوته هذه الإضافة التي أضافها الشيطان، فتسقط وتنسخ من أذهان الناس الذين سمعوها، ويحكم الله آياته.

ومن صور هذه المحاولة الخبيثة أن يتلو الرسول كلام الله، فيوقع الشيطان في أذهان بعض من يستمعون إليه معاني غير مراده، وهذه المعاني من شأنها أن تخدم باطل الشيطان وتخدم تضليلاته لكن الله يفسد على الشيطان مكيدته هذه، فينزل آيات يحكم بها المعنى المراد، بعد أن ينسخ المعنى الذي