موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في القلب(ثالثا)
الوصف
الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في القلب
ثالثا
الباب الثاني: الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية >> الفصل الرابع: في القلب >>
ثالثًا:
ولما كان القلب منبع الإرادات في الإنسان، وكان مقر الإيمان أو الكفر، كان هو الدائرة الحقيقية لتقوى الله، وخشيته، والخشوع له، وذكره ومراقبته، وكان هو الدائرة الحقيقة لما يخالف كل ذلك.
دل على هذه الحقائق عدة نصوص، منها ما يلي:
(أ) قول الله تعالى في سورة (الحج 22):
(ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)) .
المراد من شعائر الله هنا البدن التي يسوقها الحجاج هديًا بالغ الكعبة، والمراد من تعظيمها اختيار أعظمها وأجودها، وهذا الجود في سبيل الله سلوك ظاهر ناتج عن تقوى القلوب.
فمن يعظم شعائر الله غير مراءٍ بعبادته، فإن عبادته هذه من التقوى التي يمارسها قلبه.
(ب) قول الله تعالى في سورة (الحجرات 49):
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)) .
فالذين امتثلوا، فغضوا عند رسول الله أصواتهم، قد امتحن الله قلوبهم التي هي منبع إراداتهم، فانتهى الامتحان للنتيجة التي قررت لهم وهي التقوى، فهم قوم أثبتوا أن تقوى الله تعمر قلوبهم، إذ امتثلوا ما أمرهم الله به، وانتهى عما نهاهم الله عنه.
أما الذين لم يمتثلوا هذا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال الله فيهم عقب النص السابق من سورة (الحجرات 49):
(إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)) .
فوصف الله هؤلاء بأن أكثرهم لا يعقلون، أي: لا يملكون الإرادات القوية الحازمة الواعية التي تعقلهم عن التسرع إلى نداء النبي من وراء الحجرات، ولو أنهم عقلوا لصبروا حتى يخرج الرسول إليهم، ولكان ذلك خيرًا لهم عند الله.
فنفي العقل عنهم ليس نفيًا للذكاء والمعرفة، ولكنه نفي لقوة الإرادة، وبضعف الإرادة حرموا من خلق الصبر.
ولا يخفى أن التقوى ثمرة الإرادة الواعية الحازمة العاقلة.
(ج) وفي الدلالة على أن القلب محل لذكر الله، قال الله تعالى لرسوله في سورة (الكهف 18):
(وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)) .
فرطًا: أي: عجلة، وتفريطًا، وضياعًا، وإسرافًا، وندامة، وظلمًا.
(د) وفي الدلالة على خشوع القلب، قال الله تعالى في سورة (الحديد 57):
(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)) .
الإيمان في القلوب ثمرة إرادة واعية صادقة جازمة، ومن لوازم الإيمان في القلوب ذكر الله تعالى فيها، ومن آثار ذكر الله فيها خشوعها وطمأنينتها وسكونها الكامل لله، هذا ما لم تكن القلوب مريضة بداء القسوة وتبلد الحس.
(هـ) وفي الدلالة على أن ذكر الله في القلوب المؤمنة يورثها الطمأنينة، متى كانت سليمة من داء القسوة وتبلد الحس، قال الله تعالى في سورة (الرعد 13):
(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)) .
فالذين تطمئن قلوبهم بذكر الله هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
والطمأنينة هنا هي طمأنينة الراحة والسعادة بالرضا بقضاء الله وقدره، وطمأنينة الثقة بالله وحسن المآب.
أما الطمأنينة التي سبق الحديث عنها في الإيمان فهي طمأنينة القلب لصحة العقائد الإيمانية.
وتطمئن قلوب المؤمنين لوعد الله بالنصر، بعد أن يمسها القلق والخوف، بسبب الحسابات والأقيسة السببية، إذا جاءت من الله مبشرات من وراء الأسباب الإنسانية، من ذلك ما كان في غزوة بدر من إمداد الله بالملائكة، قال الله تعالى في سورة (آل عمران 3):
(إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُنزَلِينَ (124) بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)) .
وقال الله تعالى في سورة (الأنفال 8):
(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)) .
فالاستجابة للاستغاثة كانت أول الأمر بألف من الملائكة، مع الوعد بإردافهم بغيرهم، ثم ارتقى الإمداد إلى ثلاثة آلاف، ثم ارتقى إلى خمسة آلاف.
ولما كان تعلقهم أول الأمر بالأسباب تعلقًا قويًّا، قال الله لهم في (الأنفال 8):(وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ) مع أن المفروض أن تطمئن قلوبهم ثقة بوعد الله. ولما ارتقت ثقتهم بالله في الغزوة نفسها، وأمدهم الله بخمسة آلاف، قال الله لهم في (آل عمران): (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ ) والفرق بينهما تقديم الجار والمجرور وهو (به) على الفاعل في الأولى، وتأخيره في الثانية، وهذا التقديم يفيد الإشارة إلى اهتمامهم بالمدد من الملائكة.