موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في القلب(أولا)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في القلب(أولا)
222 0

الوصف

                                                              الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في القلب

                                                                       أولا
                                    الباب الثاني: الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية >> الفصل الرابع: في القلب >>

علمنا أن القلب دائرة من دوائر النفس، وأن مجموعة من خصائصها ووظائفها وأمراضها تتركز فيه.

ولدى البحث في الوظائف والخصائص والأمراض النفسية التي تتركز في القلب أخذًا من الدلالات القرآنية يتضح ما يلي:

أولًا:
تنتهي إلى القلب وتستقر فيه العلوم والمعارف الثابتة، والعقائد الراسخة، مقترنة بشحنةٍ من العواطف الملائمة لها.

ولذلك كان القلب مستقر الإيمان.

ولذلك أيضًا كانت تنزلات الوحي والإلهامات والمعارف الربانية تصل إليه وتستقر فيه، والقوي منها يحتل مركز الفؤاد.

ولما كانت دائرة القلب تقع حول مركز دائرة النفس، أي: في المستوى الضيق من أعماقها، كانت المؤثرات القوية في النفس تصل إلى أعماقها، فتحتل دائرة القلب، وأما المؤثرات الضعيفة فتبقى في أطراف النفس، والمؤثرات الوسطى قد تصل إلى دائرة الصدر، أما المؤثرات الخفيفة جدًّا فتبقى على هامش النفس.

ولا يشترط فيما يصل إلى دائرة القلب ويحتلها، أن يكون دائمًا صحيحًا سليمًا وحقًّا لا شبهة فيه، بل قد يصل إليه ما هو في حقيقة أمره فاسد مريض، أو باطل مردود، وذلك لأن القلب قد يتأثر بما يزين له من أفكار وحجج وعواطف، فيفتح بابه لاستقبال ما زين له.

وقد تفرض المنطقية العقلية حقيقة من الحقائق، فيفتح القلب لها بابه، ويدخلها إلى ساحة دائرته، ويؤمن بها، ولكن يظل غير مطمئن إليها كل الاطمئنان، فإذا تأكدت المنطقية العقلية بمشاهدة حسية، اطمأن القلب إليها تمامًا، وسمح لها أن تحتل مركز فؤاده.

ويتعرض القلب للشك والارتياب إذا لم تتضح له الحقيقة تمامًا، وقد يكون ذلك بسبب خلل في بصيرته، ناتج عن حالة مرضية غير فطرية.

وقد يتعرض القلب للزيغ عن الحق، بمؤثرات مرضية تأتيه من دوائر النفس الأخرى، كالهوى، والشهوة، والجبن، والبخل، وحب العاجلة، وغير ذلك، فالقلب بذلك يكون مريضًا.

وعندئذٍ تتعرض بصيرته الإدراكية إلى حجب رقيقة أو كثيفة، ويزداد الأمر سوءًا حتى تكون بصيرته في حجب كالأكنة هي فيها سجينة، وتتكاثر الذنوب والمعاصي، حتى تغلب على القلب وتجلله كله، وتغلفه بما يشبه الصدأ، وذلك هو الرين، قال الله عز وجل في سورة (المطففين 83):

(كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)) .

وقد يغدو القلب كالبيت المقفل، فهو لا ينفتح لواردات الخير والهداية إلا بمفاتيح.

وقد يشتد الأمر حتى تختم الأقفال ويطبع عليها، وقد تعمى البصيرة عمىً تامًا.

وقد يفقد القلب روح الخير فيه فيغدو قاسيًا متصلبًا حجريًّا ميتًا، وحين يصل إلى هذا المستوى يكون إصلاحه وإحياؤه شبه المتعذر، ويكون بمثابة الأصم الأعمى الميت المقبور، كما قال الله عز وجل في سورة (النمل 27):

(إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)) .

هذه مفاهيم دلت عليها نصوص قرآنية كثيرة، منها النصوص التالية:

1- علوم الوحي ومعارفه والنصوص التي ينزل بها لما كانت يقينًا لا شبهة فيه، كانت مخترقة دوائر نفس الرسول صلى الله عليه وسلم وواصلة إلى داخل دائرة قلبه، أعمق دائرة في كيانه النفسي.

قال الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم في سورة (البقرة 2):

(قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)) .

فجبريل عليه السلام قد نزل القرآن بإذن الله على قلب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، مخترقًا به دوائر نفسه وساحاتها إلى مستوى دائرة قلبه.

وقال الله تعالى لرسوله في سورة (الشعراء 26):

(وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195)) .

2- والقلب هو مستقر الإيمان، والإيمان هو اعتراف داخلي إرادي بفكرة من الأفكار، وتسليم بها، واستمساك بما اشتملت عليه، وتوجيه للعواطف الملائمة لها في اتجاهها.

قال الله تعالى في سورة (المجادلة 58):

(لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)) .

فالذين لا يوادون من حاد الله قد كتب الله في قلوبهم الإيمان، إذ علم سبحانه أن قلوبهم صادقة الإيمان.

وفي الأعراب الذين أعلنوا إسلامهم ولما يدخل الإيمان في دائرة قلوبهم، قال الله تعالى في سورة (الحجرات 49):

(قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14)) .

فدل هذا على أن الإيمان الصادق مستقره القلب، فإذا لم يصل إلى دائرة القلب لم يكن إيمانًا.

ومن يؤمن بالله حقًّا يحكم الله له بهداية قلبه؛ لأن قلبه قد اهتدى للإيمان، قال الله تعالى في سورة (التغابن 64):

(وَمَن يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)) .

وفي المنافقين الذين قالوا آمنا بأفواههم ولكن قلوبهم لم تؤمن؛ قال الله تعالى في سورة (المائدة 5):

(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ .... (41)) .

3- وفكرة النفاق ودوافعه حينما تتأصل تصل إلى دائرة القلب، فتدخل فيه.

ففي شأن بعض المنافقين قال الله تعالى في سورة (التوبة 9):

(وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُم مُّعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)) .

4- وكل فكرة تجزم بها النفس، وتعتقدها، تصل إلى دائرة القلب، فتدخل فيه، وإن كتمها صاحبها، أو ادعى خلافها.

لذلك كان كاتم الشهادة مرتكب إثم قلبي، إذ يعلم حقيقةً يجب عليه أن يشهد بها، ثم يكتمها صاحبها، أو من يقيم بها الحق قال الله تعالى في سورة (البقرة 2):

(وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)) .

فدل هذا أن معرفة ما تجب الشهادة به قد وصلت إلى داخل دائرة القلب، ودل أيضًا على أن كتم الشهادة عمل سلبي يؤاخذ الإنسان عليه، ودل على أن الإثم إثم عميق من مستوى القلب.

ولذلك كان الذي يقول خلاف ما يعلم، إنما يقول بفيه ما ليس في قلبه.

ففي شأن المخلفين من الأعراب عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى في سورة (الفتح 48):

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ... (11)) .

فهم يقولون بألسنتهم خلاف ما يعلمون من أنفسهم في قلوبهم.

وفي اعتذار المنافقين حينما انخذلوا عن الرسول وأصحابه في غزوة أحد، قال الله تعالى في سورة (آل عمران 3):

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)) .

فهم يعلمون من أنفسهم علمًا يقينيًّا خلاف ما قالوه بأفواههم، ولكنهم يكتمونه، ويقدمون بألسنتهم أعذارًا كاذبة، ولما كان هذا العلم ثابتًا كان مركزه دائرة القلب.

وقد يبلغ إنكار فكرة من الأفكار مبلغ الجزم، فيصل حينئذٍ عمق الإنكار إلى دائرة القلب، فيكون القلب هو المنكر، من ذلك إنكار الكافرين الذين لا يؤمنون بالآخرة، قال الله تعالى في سورة (النحل 16):

(إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ (22) لاَ جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)) .

فدل هذا على أن الكفر متى كان إنكارًا حقيقيًّا، كان مستقره القلب؛ لأنه يدخل في عمق النفس حتى يصل إلى دائرة القلب، شأنه في هذا كشأن الإيمان.

فالإيمان والكفر ليسا إدراكًا ذهنيًّا مجردًا، بل كل منهما عقيدة تتغلغل في أعماق النفس، حتى تنفذ إلى داخل دائرة القلب، وكل منهما عملٌ إراديٌ قلبي.

5- ويتأثر القلب فيما يعتقده ويجزم به من أفكار، بما يزين له من حجج ولو كانت باطلة، وبما يزين له من عواطف ولو كانت فاسدة، وبأن تأتيه الأفكار نفسها مزينة، تتملق القلب وتتودد إليه.

وحين تقترن الحجج القاطعة والبراهين الساطعة بما يزينها في النفوس، أو تأتي الأفكار نفسها مزينة، تكون أسرع نفاذًا في دوائر النفس حتى تستقر داخل دائرة القلب.

وهنا يطلب من دعاة الحق أن يزينوا حقهم، ولا يجد دعاة الباطل طريقًا للتأثير بباطلهم إلا بأن يزينوه ويحسنوه في نفوس من يدعونهم إليه.