موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الصدر (في الصدر)
الوصف
الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية : في الصدر
في الصدر
الباب الثاني: الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية >> الفصل الثالث: في الصدر >>
في الصدر
أطلق الصدر في القرآن وأسندت إليه جملة من الصفات والأعمال، مع ملاحظة أن الصدر بالإطلاق العام يشمل دائرة القلب كما سبق؛ لأن القلب جزء منه، كما قد يراد منه المستوى الذي يقع وراء دائرة القلب.
ولدى تتبع الدلالات القرآنية لمعرفة خصائص الصدر النفسية نلاحظ ما يلي:
* أولًا:
الصدر يحصل فيه الانشراح، أو الحرج والضيق والحصر.
دل على ذلك عدة نصوص قرآنية منها النصوص التالية:
(أ) قول الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم في سورة (الانشراح 94):
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)) .
(ب) وقول موسى عليه السلام حين كلفه الله أن يذهب إلى فرعون فيدعوه للإيمان، كما حكى الله عنه في سورة (طه 20):
(قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)) .
وكما حكى عنه في سورة (الشعراء 26):
(قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13)) .
(ج) وحين يفكر الإنسان أن يستمسك بمبدأ، أو يقوم بعمل، فقد ينشرح صدره إليه، وقد لا ينشرح، من ذلك انشراح الصدر للإسلام، أو ضيقه وحرجه، قال الله تعالى في سورة (الأنعام 6):
(فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (125)) .
فالذين لا يؤمنون ويرفضون قبول الحق الرباني بعد وضوح أدلته وبراهينه، يجعل الله على صدورهم رجسًا تضيق به صدورهم وتكون في حرج، فلا يستجيبون لدعوة الإسلام، ولا يستسلمون لتنفيذ شرائعه وأحكامه. والذين يؤمنون بالله وتطمئن قلوبهم للحق الرباني يشرح الله صدورهم للإسلام، فيعلنون إسلامهم لله واستسلامهم لتنفيذ شرائعه وأحكامه.
وقال الله تعالى في سورة (الزمر 39):
(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (22)) .
فالذين تلين قلوبهم حين يذكّرون بالله، فيؤمنون به، يشرح الله صدورهم للإسلام، فهم بذلك على نور من ربهم.
والذين قست قلوبهم مع تذكيرهم بالله فلم يؤمنوا، لا يشرح الله صدورهم للإسلام، وهؤلاء ويلٌ لهم لأنهم قست قلوبهم، وسيحيق بهم سوء المصير.
ومن ذلك انشراح الصدر بالكفر، قال الله تعالى في سورة (النحل 16):
(مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآَخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)) .
(د) وفي شأن الكافرين الذين تضيق صدورهم عن مقاتلة المسلمين، قال الله تعالى في سورة (النساء 4):
(إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90)) .
حصرت صدورهم: ضاقت ولم تنشرح لقتالكم.
(هـ) وأنزل الله على رسوله القرآن، وفيه تكليف بحمل رسالة عظمى للناس أجمعين، ويتضمن آيات فيها مواجهة صريحة لباطل المشركين، وتسفيه لعقائدهم ولعقولهم، وهذه المواجهة تدفع المشركين إلى مقابلة الرسول بما يكره من تكذيب وشتيمة واتهامات ومن شأن هذه الأمور أن يضيق بها صدر الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عليه قوله في سورة (الأعراف 7):
(كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)) .
وقوله في سورة (هود 11):
(فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)) .
وقوله في سورة (الحجر 15):
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)) .
* ثانيًا:
الصدر تحصل فيه مشاعر الرهبة.
دل على هذا قول الله تعالى عن المنافقين في سورة (الحجر 59):
(لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (13)) .
* ثالثًا:
الصدر تحصل فيه مشاعر الكبر.
ففي شأن الكافرين الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطانٍ أتاهم قال الله تعالى في سورة (غافر 40):
(إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)) .
أي: ما في صدورهم أي شيءٍ إلا الكبر الذي ملأ كل ساحاتها، وفي هذا تصوير بليغ لعظم رذيلة الكبر، الذي سيطر على كل مشاعرهم، حتى كأن صدورهم ليس فيها شيء آخر غير الكبر.
وهذا الكبر الذي يشعرون به شعورًا شخصيًّا، لم يكونوا ليبلغوا في الواقع تحقيق الوصف الذي قد يبرره، فما هم ببالغيه.
* رابعًا: الصدر يغتاظ، ويحمل الغل والبغضاء.
ففي شأن أهل الجنة قال الله تعالى في سورة (الأعراف 7):
(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ .... (43)) .
وقال الله تعالى في سورة (الحجر 15):
(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (47)) .
وفي شأن البغضاء التي تخفيها صدور المنافقين قال الله تعالى في سورة (آل عمران 3):
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتِّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)).
* خامسًا:
من مشاعر الصدر مشاعر الإكبار والإعظام.
ففي شأن منكري البعث والحياة الأخرى بعد الموت قال الله تعالى في سورة (الإسراء 17):
(وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا (51)) .
ينغضون إليك رؤوسهم: يحركونها استهزاء.
* سادسًا:
من حاجات النفس حاجات تتركز في الصدور.
ففي معرض امتنان الله علينا بالأنعام قال الله تعالى في سورة (غافر 40):
(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)) .
وفي وصف الأنصار قال الله تعالى في سورة (الحشر 59):
(وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)) .
(وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا) قال الحسن: أي حسدًا وحرارة وغيظًا مما أوتي المهاجرون من دونهم.
* سابعًا:
وساوس الشياطين تصل إلى مشاعر الصدور.
قال الله تعالى في سورة (الناس 114):
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)) .
* ثامنًا:
منابع الأعمال الإرادية في الصدور، لذلك فهي التي يوجه لها الامتحان الرباني من وراء ظواهر السلوك، وما تبثه الصدور وتنجزه من إرادات ونيات هو الذي يحصل للحساب والجزاء يوم الدين.
دل على أن الله يبتلي ما في صدور الناس قول الله تعالى في سورة (آل عمران 3):
(وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)) .
ودل على تحصيل ما في الصدور يوم القيامة قول الله تعالى في سورة (العاديات 101):
(أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ)