موسوعةالأخلاق الإسلامية-وسائل اكتساب الأخلاق(ثالثًا- القدوة الحسنة)
الوصف
وسائل اكتساب الأخلاق
ثالثًا- القدوة الحسنة
الباب الأول: مقدمات وأسس عامة >> الفصل الخامس: اكتساب الأخلاق ووسائله >> 6- وسائل اكتساب الأخلاق
ثالثًا- القدوة الحسنة:
القدوة الحسنة هي المثال الواقعي للسلوك الخلقي الأمثل، وهذا المثال الواقعي قد يكون مثالًا حسيًّا مشاهدًا ملموسًا يقتدى به، وقد يكون مثالًا حاضرًا في الذهن بأخباره وسيره، وصورة مرتسمة في النفس بما أثر عنه من سير وقصص وأنباء من أقوال وأفعال.
والقدوة الحسنة تكون للأفراد على صفة أفراد مثاليين ممتازين، وتكون للجماعات على صفة جماعات مثالية ممتازة.
وسر تأثير القدوة الحسنة في اكتساب الفضائل يرجع إلى عدة أسباب، منها ما يلي:
1- إن القدوة الحسنة تحتل في المجتمعات الإنسانية مرتبة من المجد لا يحظى بها غيرها، وهذه المرتبة محفوفة بالتقدير الكبير من الناس، ومحفوفة بالثناء والإطراء والإعجاب، وكل هذا يولد في الفرد المحروم من أسباب هذا المجد حوافز قوية تحفزه إلى تقليد القدوة الحسنة، ومحاكاتها في أخلاقها وسلوكها، وعن طريق التقليد في الفضائل تكتسب الفضائل؛ لأن الممارسة التقليدية تتحول إلى عادة متمكنة، وهذه تتحول إلى خلق مكتسب.
ولو أن مجد القدوة الحسنة قد ضعف في المجتمع الذي تعيش فيه، بسبب الانحراف الخطير في هذا المجتمع، وضعف تأثيره عند كثير من الأفراد، فإن بعض الناس الذين يتمتعون بمقدار كافٍ من محاكمة الأمور، وتقديرها حق قدرها، تظل القدرة ذات تاثير على قلوبهم ونفوسهم، ففي أسوأ المجتمعات المنحرفة توجد قدوات صالحة مؤثرة في بعض الأفراد، وإن كانت نسبة التأثير العام تضعف لا محالة بسبب انحراف المجتمع.
2- إن المثال الحي المرتقي في درجات الكمال، يثير في نفس البصير العاقل قدرًا كبيرًا من الاستحسان والإعجاب والتقدير والمحبة، ومع هذه الأمور تتهيج دوافع الغيرة لديه، فإن كان عنده في الأصل ميل إلى الخير، وتطلع إلى مراتب الكمال، وليس في نفسه عقبات تصده عن ذلك، أخذ يحاول تقليد ما استحسنه وأعجب به، بما تولد لديه من حوافز قوية تحفزه لأن يعمل مثله، حتى يحتل درجة الكمال التي رآه يحتلها.
3- إن القدوة الحسنة المتحلية بالفضائل الممتازة تعطي الآخرين قناعة بأن بلوغ هذه الفضائل من الأمور الممكنة، التي هي في متناول القدرات الإنسانية، وشاهد الحال أقوى من شاهد المقال.
فمن المشاهد في مجال التربية أن كثيرًا من الناس يرون بعض الأمور مستحيلة الوقوع؛ لأنهم لم يعالجوا قدراتهم للقيام بها، فإذا شاهدوا غيرهم يفعلها، أخذوا يطوعون قدراتهم حتى يكسبوها المهارات المطلوبة لذلك العمل، بالمعالجة والمحاكاة والتدريب.
ومعلوم أن في فطرة الإنسان ميلًا قويًّا للمحاكاة والتقليد، وهو الأمر الذي يسهل عليه عملية تعلم الأعمال الراقية، التي لم تصل إلى معرفتها الأجيال السابقة إلا بعد تطوير كثير، اعتمد على الاختبار والتجربة والتحسين واختيار الأفضل.
ويقوى الميل إلى المحاكاة والتقليد، إذا كان من اتجهت إليه الأنظار قد فرض احترامه وتقديره وحبه.
وقد اتخذ الإسلام القدوة الحسنة وسيلة من وسائله، لترقية المجتمعات المسلمة في سلم الكمال السلوكي عامة، ومنه الكمال الخلقي.
ووجه القرآن الكريم بصراحة تامة إلى القدوة الحسنة، فقال الله تعالى في سورة (الأحزاب 33):
(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا (21)) .
ففي هذا النص إرشاد عظيم من الله تبارك وتعالى للمؤمنين أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة لهم، يقتدون به، في أعماله، وأقواله، وأخلاقه، وكل جزئيات سلوكه في الحياة، فهو خير قدوة يقتدي بها الأفراد العاديون، والأفراد الطامحون لبلوغ الكمال الإنساني في السلوك.
وجعل الله الذين آمنوا معه وصدقوا وأخلصوا واستقاموا أمثلة رائعة يقتدى بها في معظم الفضائل الفردية والاجتماعية.
ولئن انتقل الرسول صلوات الله عليه إلى جوار ربه، فإن سيرته التي تحتوي على جزئيات سلوكه ماثلة لنا.
وفيما بلغنا من تراجم أصحابه رضوان الله عليهم، ما يكفي لتجسيد القدوة الحسنة للمجتمع المسلم.
ثم إن كل عصر من العصور من بعدهم لا يخلو من وجود طائفة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم تصلح لأن تكون قدوة حسنة، قلت هذه الطائفة أو كثرت، فقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله:
لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال
رواه أبو داود عن عمران بن حصين.
وروى الإمام مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة.
وروى البخاري ومسلم عن معاوية قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
فلا يخلو عصر من عصور الأمة المحمدية من طائفة صالحة، تصلح لأن تكون في عصرها قدوة حسنة للأفراد.