موسوعةالأخلاق الإسلامية-اكتساب الأخلاق ووسائله(2- نصوص مشروحة في الأخلاق الفطرية)

الوصف
اكتساب الأخلاق ووسائله
2- نصوص مشروحة في الأخلاق الفطرية
الباب الأول: مقدمات وأسس عامة >> الفصل الخامس: اكتساب الأخلاق ووسائله >>
2- نصوص مشروحة في الأخلاق الفطرية
(أ) في اختلاف فطر النفوس والأرواح:
روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف .
هذا الحديث يكشف عن أصلين جوهريين من أصول التكوين العام للناس:
الأصل الأول
منهما يتعلق بالتكوين النفسي لهم.
والأصل الثاني
يتعلق بالتكوين الروحي.
أما ما يتعلق بالتكوين النفسي فيكشف الرسول صلى الله عليه وسلم فيه عن حقيقة مهمة، وهي أن الناس ليسوا جميعًا كخليطة واحدة متماثلة من كل الوجوه، ولكن بينهم فروق كبيرة. فكما توجد فروق كبيرة بين معادن الأرض وبين صخورها وأتربتها، توجد بين أفراد الناس المخلوقين منها فروق كبيرة من وجوه شتى، وكل فرد منهم خليطة فذة لا تماثلها من كل الوجوه خليطة فرد آخر، ولكن قد تقاربها وتشترك معها في صفات كثيرة تصلح للتصنيف، وإن كانت لا تصلح للمطابقة التامة.
ثم إن جميع الخلائط الفردية لأفراد الناس تشترك في الصفات الأساسية العامة، رغم الاختلاف بينها في بعض العناصر، أو الاختلاف بينها في نسب العناصر، على نظير ما نشاهده في المعادن، وعلى هذا تتجمع في صفات عامة، وتفترق في الخصائص، ومن الخصائص ما هي خصائص أصناف، ومنها خصائص أفراد.
فالناس يختلفون إلى أصناف، وأفراد كل صنف يختلف بعضهم عن بعض في مقدارٍ ما من الصفات والخصائص، رغم اشتراكهم جميعًا في الصفات العامة التي ميزتهم بالإنسانية التي كرمها الله.
والاختلاف في التكوين النفسي يشمل في الدرجة الأولى التكوين الطبعي والخلقي، ثم يشمل جوانب التكوين النفسي الأخرى، كالذكاء والقدرات والاستعدادات المختلفة. ولدى الملاحظة العلمية والتتبع الاستقرائي يتبين أن الناس مختلفون متفاوتون في كل ذلك، ولا نكاد نجد نسختين من الناس متطابقتين من كل الوجوه، متماثلتين في كل الصفات.
لذلك كان على المربي أن يضع في حسابه واقع الفروق الكثيرة بين الأفراد، وأن يتعامل معهم على أساس هذه الفروق.
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا
هو مثال من الأمثلة التطبيقية للحقيقة العامة التي قررها قوله:
الناس معادن كمعادن الذهب والفضة
؛ أي بما أن الناس مختلفون في أصل تكوينهم النفسي كاختلاف المعادن، فإن خيارهم في الجاهلية هم خيارهم في الإسلام، إذا استووا في فهم الدين والفقه عن الله، إذ التفاضل في أصل التكوين سيظل ملازمًا لهم.
ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينظر إلى الناس من أهل الجاهلية، فينتقي خيارهم ويرجو إيمانهم، ليكونوا قوة للإسلام والمسلمين. ومن أمثلة ذلك دعاؤه المشهور الذي قال فيه:
اللهم أعز الإسلام بأحب العبدين إليك؛ عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام
(وهو أبو جهل). وقد استجاب الله دعاءه في عمر، فكان به نصر الإسلام وقوة المسلمين.
وعلى هذا الأساس رفض الرسول صلى الله عليه وسلم أن يولي أبا ذر إمارة من الإمارات، إذ عرف فيه جانب الضعف الفطري.
وبالاستناد إلى هذا الأساس أيضًا ظهرت عبقرية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حين أحسن انتقاء ولاته وعماله وأمراء البلاد أيام خلافته وسلطانه.
والمربي العاقل الحصيف الناجح هو الذي ينظر إلى استعدادات الأفراد وخصائصهم النفسية، فيوجه كلًا منهم لما يلائمه، ولما يمكن أن يكون ناجحًا فيه.
ومن الجهل جدًّا تكليف الإنسان أمرًا لا يلائم طبعه وتكوينه الفطري.
هذا ما يتعلق بالتكوين النفسي.
وأما ما يتعلق بالتكوين الروحي، وهو الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:
والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف
فهو يدل على أن الأرواح في أصل تكوينها مختلفة أيضًا فيما بينها، فهي جنود مجندة، أي هي أصناف شتى وليست صنفًا واحدًا، وإن كانت كلها تشترك في صفات عامة تدخلها تحت جنس واحد أو نوع واحد.
فمن أصنافها ما يتلاءم بعضه مع بعض، ومن أصنافها ما يتنافر بعضه عن بعض، شأن العالم الروحي في هذا كشأن العالم المادي. ففي هذا نشاهد أصنافًا تتلاءم وأخرى تتنافر، والمتلائمات قد تزيد نسبة التلاؤم فيها إلى حد التجاذب العنيف، وقد تنخفض النسبة إلى حد التوافق عند التلاقي، والمتنافرات كذلك، فقد تزيد نسبة التنافر إلى حد التناقض، وقد تخف النسبة إلى حد عدم الانسجام والتوافق عند التلاقي.
وما كان في أساس التكوين الروحي نجد ظواهر له في عالم الناس المادي، فما تعارف منها في عالم الروح ائتلف في العالم المادي، وعلى هذا الأساس نجد الائتلاف والتوافق بين إنسان وآخر، دون أن نستطيع تفسير ذلك بأسباب مادية ظاهرة. وما تناكر منها في عالم الروح اختلف في العالم المادي، وعلى هذا الأساس نجد الاختلاف وعدم التوافق بين إنسان وآخر، دون أن نستطيع تفسير ذلك بأسباب مادية ظاهرة.
(ب) في الأخلاق الفطرية:
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله، من أكرم الناس؟ قال:
أتقاهم
فقالوا: ليس عن هذا نسألك؟ قال:
فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله
قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال:
فعن معادن العرب تسألوني؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا.
في هذا الحديث وصف لدرس نبوي يعتمد على عنصر السؤال والجواب، ويدلنا على أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا قد يتخذون السؤال مفتاحًا للعلم، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعيش معهم معلمًا في كل أحواله، فيجيبهم عن أسئلتهم بمقدار ما يفهم منها، ويفتح لهم أبواب طلب العلم على مقدار ما ينقدح في أذهانهم من مسائل.
فلما سأله الصحابة: من أكرم الناس؟ ظن أنهم يسألونه عن أكرم الناس عند الله، فأعطاهم جوابًا مستمدًا من القرآن، فقال لهم:
أتقاهم.
إذ التقوى هي القيمة الحقيقية التي يقدمها الإنسان بعمله في الحياة الدنيا، وعلى مقدار هذه القيمة ينال من ثواب الآخرة والرضوان من الله، فيكون أتقى الناس أكثرهم كرامة عند الله.
ولما قالوا له: ليس عن هذا نسألك، انتقل إلى ظن آخر إذ ظن أنهم يسألونه عن أكرم الناس نسبًا، أي عن أجمعهم لشرف النسب، فأجابهم بقوله:
فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله.
والواقع أنه إذا نظرنا في أنساب الناس لم نجد أكرم ولا أشرف نسبًا من أن يكون الإنسان نبيًّا، وعدد الأنبياء في سلسلة آبائه أوفر من غير انقطاع، وعلى هذا لا نجد في الواقع الإنساني أكرم من يوسف عليه السلام، فهو وأبوه وجده وأبو جده أربعتهم أنبياء.
ثم لما قالوا له: ليس عن هذا نسألك، عرف صلوات الله عليه أنهم يسألونه عن أكرم الناس معدنًا، أي عن خيرهم في التكوين الفطري أو المكتسب، فدلهم على أن خيارهم من كان أكرمهم خلقًا. وهذا التكوين الخلقي يرافق الإنسان ويصاحبه في كل أحواله، فإذا نظرنا إلى مجموعة من الناس غير متعلمة، أو في وسط اجتماعي جاهلي، فإنه لا بد أن يمتاز في نظرنا من بينهم أحاسنهم أخلاقًا، فهم خيرهم معدنًا، وأفضلهم سلوكًا اجتماعيًّا، ثم إذا نقلنا هذه المجموعة كلها، فعلمناها وأنقذناها من جاهليتها، ثم نظرنا إليها بعد ذلك نظرة عامة لنرى من هو أفضلهم، فلا بد أن يمتاز في نظرنا من بينهم من كان قد امتاز سابقًا؛ لأن العلم يمد من كان ذا خلق حسن وسلوك اجتماعي فاضل فيزيده حسن خلق وفضل سلوك، فإذا جاء الدين والفقه فيه، كان ارتقاء هؤلاء فيما امتازوا به ارتقاء يمنحهم السبق على من سواهم لا محالة، وعندئذ تظل فروق النسبة لصالحهم فضلًا وكرمًا.
ودل الحديث على أن من الأخلاق أخلاقًا فطرية بها يتفاضل الناس في أصل تكوينهم الفطري.
(ج) في الأمانة وفي كون عنصرها من الأخلاق الفطرية:
روى البخاري ومسلم عن حذيفة بن اليمان قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا:
إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة.
ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال:
ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت، الوكت: هو الأثر اليسير. ، ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المجل، المجل: تنفط في الجلد من أثر الحرق أو من أثر العمل والكد.
، كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرًا وليس فيه شيء.
ثم أخذ صلى الله عليه وسلم حصى فدحرجه على رجله فقال:
فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحدٌ يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلًا أمينًا، حتى يقال للرجل: ما أجلده! ما أظرفه! ما أعقله! وما في قلبه مثقال حبة من خردلٍ من إيمان.
قال حذيفة: ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت، لئن كان مسلمًا ليردنه علي دينه، وإن كان نصرانيًّا أو يهوديًّا ليردنه علي ساعيه، وأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانًا وفلانًا.
في هذا الحديث بيان عن الأمانة في الناس، وعما تصير إليه فيهم.
حدث الرسول صلى الله عليه وسلم أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة.
فأبان الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة من حقائق التكوين الخلقي الفطري في الناس، وهذه الحقيقة تثبت أن الأصل في الناس أن يكونوا أمناء؛ لأن الله تعالى بالتكوين الفطري قد أنزل خلق الأمانة فوضعه في جذر قلوب الرجال، أي في أصل قلوبهم، إذ جذر القلوب أعمق شيء فيها، وهو الذي يغذي عواطفها وانفعالاتها، كما أن جذر الشجرة يغذيها بعوامل النماء والخضرة والاتساع.
ثم نزلت شرائع الله التي أنزلها في كتبه، وبينها القرآن أحسن بيان، وبينتها سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت تغذيةً وتنميةً لما غرسه الله في قلوب الرجال من فطرة قائمة على ا