موسوعةالأخلاق الإسلامية-المسؤولية عن السلوك الأخلاقي(الحرية وحدودها)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-المسؤولية عن السلوك الأخلاقي(الحرية وحدودها)
270 0

الوصف

                                                                             المسؤولية عن السلوك الأخلاقي

                                                                                   الحرية وحدودها
                                                             الباب الأول: مقدمات وأسس عامة >> الفصل الرابع >>

3- الحرية وحدودها.

لا توجد حرية مطلقة لمخلوق، والحديث عنها خرافة من الخرافات، وطلبها وهم من الأوهام المستحيلة الوقوع، ولا ينخدع بطلبها إلا ناقصو العقل من المراهقين الذين يسبحون في أحلام اليقظة، ويعيشون في دائرة أوهام أنفسهم فقط، أما الواقع في الحياة فمخالف مخالفة تامة لأحلامهم وأوهامهم.

إن الحرية المطلقة ليست إلا لمن بيده الخلق والأمر، وهو على كل شيء قدير، ومع ذلك فهو بحكمته لا يفعل إلا ما فيه الخير، ولا يختار بإرادته ذات الحرية المطلقة إلا ما فيه الخير. وقد كتب على نفسه الرحمة، وحرم على نفسه الظلم، وألزم نفسه بأمور كثيرة تجاه عباده، مع أنه لا حق لمخلوق على خالقه، ولكنه تبارك وتعالى رتب على نفسه حقوقًا لعباده.

فمن النصوص التي تثبت طائفة من الالتزامات الربانية ما يلي:

1- قول الله تعالى في سورة (الأنعام 6):

(وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (54)) .

2- وقول الله تعالى في سورة (الروم 30):

(وَكَانَ حقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)) .

3- وجاء في الحديث القدسي الذي رواه الإمام مسلم عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله تبارك وتعالى أنه قال:

يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا...

إلخ.

فمن أين للإنسان أن يكون له حرية مطلقة؟ إن حرية الإنسان لتحقيق ما يريد أو يهوى أو يشتهي مقيدة بواقع الضعف والعجز الذي هو مكبل به. قد تتوجه مثلًا إرادة الإنسان الحرة في أن يكون أول السابقين، ولكن يقصر به العجز عن تحقيق السبق لنفسه، فيظهر له بالتجربة الواقعية أنه لم يكن حرًا في تحقيق ما أراد، وقد يعجز عن إبداء أية محاولة فيها شيء من الحرية. يتمنى الساقط من مكان شاهق أن يكون لديه القدرة على الطيران ليسلم، ويريد ذلك، ولكن لا يجد أنه حر في أن يفعل ما يريد، إنه كالمكبل بالأغلال مشدود الوثاق فاقد الحرية. يتمنى الإنسان أن يكون واسع الثراء عظيم الجاه قوي السلطان، ويريد ذلك لنفسه، ولكنه لا يجد أنه حر في أن يصل إلى ما يريد، فحريته مقيدة غير مطلقة، وكذلك كثير من الأماني.

هل نملك الحرية المطلقة في أن نطير طيران النسر؟ أو نغوص غوص الحوت؟ أو نعرج عروج الملائكة؟

هل ملكنا الحرية المطلقة حينما ولدنا؟ وهل نملك الحرية في أن ندفع عن أنفسنا الموت متى انتهت آجالنا؟

إن قدرات الإنسان –مهما كانت فائقة- لا تتسع لتحقيق كل مطالبه الخيالية، ولو خلا له مجال الحياة، وتهيأت له كل الفرص المواتية لانطلاق حريته الشخصية. فحق الحرية الشخصية مقيد تقييدًا طبيعيًّا، شاء الإنسان أم أبى.

إن حق حرية الإرادة معارض بحقوق كثيرة، منها حقوق شخصية، تدخل في ذلك الإنسان صاحب الإرادة، ومنها حقوق اجتماعية، ومنها حقوق ربانية.

وهذه الحقوق لا تنال جميعها، إلا على طريقة التوفيق بينها، وذلك بأن يعطى لكل منها نسبته الصالحة النافعة ضمن التوزيع العام العادل، جلبًا لأقصى ما يمكن جلبه من الخير، ودفعًا لأقصى ما يمكن دفعه من الشر. والأصل في الإرادة الحرة في الإنسان أن تكون حاكمة عادلة، تعطي كل ذي حق حقه بالعدل، فإن استخدمت حريتها في غير ذلك كانت جائرة، غير صالحة لأن تكون حاكمة في كيان الإنسان، وغير مؤهلة لهذا السلطان العظيم النادرن في الوجود، سلطان حرية اختيار ما تشاء، ضمن دوائر الاستطاعة. وحينما يعطى للحاكم سلطة الحكم المطلقة، فليس معنى ذلك إعطاؤه حقًّا في أن يظلم، ويجور ويهضم حقوق الناس، لمجرد أن يثبت سلطته، ويطلق فيها إرادته العمياء تفعل ما تشاء.

فمن الحقوق الشخصية: حق تكميل الفكر بالمعرفة، وحق جلب السعادة والطمأنينة للقلب والنفس. ومنها حقوق الجسد على الإنسان: كحقه في الغذاء من غير إسراف، وحقه في الدواء النافع، وحقه في الاستمتاع بالراحة واللذات المباحة من غير إسراف ولا تقتير، وحقه في جلب ما ينفعه ودفع ما يضره.

فهل من حق حرية الإرادة الشخصية أن يقتل الإنسان نفسه ليرضي شهوته؟ هل من حق الحرية الشخصية أن يمرض الإنسان جسمه ليرضي نهمته؟ هل من حق الحرية الشخصية أن يخرب الإنسان طاقته الفكرية وقوته العقلية ليرضي هواه في عادة استحكمت فيه، وتمكنت من نفسه؟ هل من حق الحرية الشخصية أن يدمن الإنسان المسكرات، أو المخدرات، ويقذف بنفسه في مصائب عواقبها مؤلمة؟!.

هذا أمر لا يقبل به ذو عقل.

أما الحقوق الاجتماعية فكثيرة: منها أن لا يتعرض الإنسان من أجل إثبات حريته الشخصية إلى شيء من حقوق الآخرين بظلم أو عدوان، ومنها أن يشترك مع المجتمع في تكافل اجتماعي يتبادل فيه أفراد المجتمع الأخذ والعطاء، ضمن قواعد العدل والإحسان والواجب. ما دام الإنسان كائنًا اجتماعيًّا فلن يكون ذا حرية مطلقة، إن شركاءه في الهيئة الاجتماعية سيحدون من حريته؛ لأن لهم مصالح مثلما له مصالح، ولأن لهم مطالب مثلما له مطالب، ولن تتسع حياة الجماعة لجميع المطالب الخيالية التي يصبو إليها الأفراد.

فهل من حق الحرية الشخصية أن يقتل الإنسان غيره ليثبت حريته؟ هل من حق الحرية الشخصية أن يرضي الإنسان شهوة من شهواته في حين أنه ينجم عنها آلام آخرين وعذابهم؟ هل من حق الحرية الشخصية أن يدمن الإنسان المسكرات ويخلف ذرية ترث عنه العاهات والأمراض الخطيرة بسبب إدمانه؟ إنه بإدمانه المسكرات لا يجني على نفسه فقط وإنما يجني على نفسه وعلى ذريته، وعلى المجتمع الذي يعيش فيه، لما يجلب له من متاعب، وما يحمله من أعباء. هل من حق الحرية الشخصية أن يقذر الإنسان في طريق عام، ويعرض الآخرين للأذى، ويعرض صحتهم للأمراض والأوبئة؟ إنه لا يملك أن يفعل مثل هذا في بيته الخاص به، إذا كان لفعله أضرار وآثار تتعدى للآخرين. ولو أنه كان مريضًا بمرض معدٍ يسري بحسب سنن الله الكونية إلى الآخرين، لم يكن من حق حريته الشخصية أن يجتمع بالناس، لئلا يسبب لهم العدوى، وعليه أن يفرض على نفسه حجرًا صحيًّا. هل من حق الحرية الشخصية أن يسلب الإنسان مال غيره بالباطل؟ هل من حق الحرية الشخصية أن يعلن الإنسان جحوده بالحقائق الثابتة، ويعمل على إضلال الناس؟ إنه يجب أن يعاقب ويحجز ويمنع من ذلك، لا سيما إذا كانت هذه الحقائق تتصل بمصالح الناس وأنظمتهم، وضوابط هيئتهم الاجتماعية.

وأما الحقوق الربانية، فهي حقوق الخالق المالك على عباده، وليس من حق الإنسان أن يستخدم ما أعطاه الله من الحرية الشخصية في العدوان على حقوق مانح هذه الحرية، وأن يتجاوز بها الحدود التي حدها له، وكان باستطاعة الخالق المالك وما يزال باستطاعته أن يسلبه حريته وحياته وكل ما أعطاه.

إن مما لا شك فيه أن الحقوق لها حدود، وأن كل حق متى تجاوز حده خرج عن دائرته فكان عدوانًا وظلمًا.

فدعوى حق الحرية الشخصية المطلقة لا تقوم إلا على أساس واحد، هو إلغاء كل الحقوق إلا حق الحرية، وهذه الحرية الشخصية هي في الأساس خادمة للحقوق الأخرى، ومنظمة لها، وليس لها مطالب ذاتية، غير الشعور باستقلال الذات.

إن الذين يزعمون أنهم يعطون أنفسهم حرياتها الشخصية يقعون فريسة للأهواء والشهوات والشياطين، وعندئذ لا تكون لهم حريات شخصية، وإنما تكون لهم إرادات مستعبدة مذلة بين أيدي الأهواء والشهوات والشياطين.

إن الذي يستطيع أن يظفر بأكبر قسط من الحرية الشخصية هو الذي يكون عبدًا لله حقًّا، فمن تحقق بعبوديته لله تبارك وتعالى ملك هذا الحظ الأوفر، فاستطاع بحرية تامة أن يدير شؤون نفسه إدارة حكيمة عاقلة، غير واقعة في إسار جمهور أهواء النفس الجامحة، والشهوات الجانحة، وحمى نفسه من أن يكون عرضة لاستحواذ شياطين الإنس والجن عليه؛ لأن من كان عبدًا لله حقًّا تحرر من أسر كل ما عداه.

فالعبودية لله تعالى تصون وتحمي، وتعلي وترفع، وتسدد الطريق، وتحمل الإنسان على سفينة النجاة، في خضم بحر الحياة المتلاطم، وتأخذ بيده إلى السعادة العاجلة، ثم إلى السعادة الخالدة.

ومن ترك العبودية لله تعالى منخدعًا بزخرف أوهام الحرية الشخصية قذف بنفسه في أودية الهلاك والدمار، ودفع بها إلى أقبح أنواع الاستعباد والإسار، إذ تتخطفه الأيدي المختلفة، وتجتاله الشياطين، وتجعله عبدًا ذليلًا لها، وتمزقه شر ممزق، وعندئذ يذوق آلام الشقاء في حياته الدنيا ثم في حياته الأخرى.

نعوذ بك اللهم من ضلال الرأي، ونعوذ بك اللهم من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.

ويحمل بعض المراهقين أقوال الفوضويين في الحرية الشخصية بغباء، ويرددونها بدون عقل ولا بصيرة، زاعمين أن طريق الظفر بالسعادة في الحياة إنما يكون في إطلاق حريات الأفراد، في أن يفعل كل منهم ما يريد، دون أن يكون له رادع يردعه، أو حاجز يحجزه، من سلطة إدارية، أو هيئة اجتماعية، أو دين أو أخلاق أو قوانين، وزاعمين أن الحرية الشخصية المطلقة دون أي قيد حق طبيعي فطري من حقوق الإنسان، ولا يصح أن ينزع منه.

ويستغل المفسدون في الأرض هذه الفكرة المدمرة لهدم كيان الجماعات، وتبديد طاقاتها، دون أن يخسروا في ذلك شيئًا من رجالهم، أو أموالهم، أو عتادهم، وذلك إذ ينطلق مراهقو الشعوب بدافع من هذه الفكرة الخبيثة، وهم يحلمون بأمجاد وهمية، ويظلم عليهم الليل وهم مندفعون، ثم لا يجدون أنفسهم ولا يجدون شعوبهم إلا ضحايا وأسارى في أيدي أعدائهم الشياطين.

قصة الحكيم الرباني وداعي الحرية المطلقة التي ليس لها حدود:

التقى الحكيم الرباني بداعي الحرية المطلقة، فأخذ داعي الحرية المطلقة يبشر بمذهبه الشيطاني، ويقدم أنواعًا من زخرف القول، يصعد فيه مرة ويصوب فيه أخرى، دون أن يستند في أقواله إلى أسس منطقية سليمة، ودون أن يلتزم بقواعد المناظرة الصحيحة. وكان الهراء الفكري في كلامه كثيرًا، إلا أنه مصنع مزخرف يخدع صغار العقول، ومن ليس لديهم خبرات ط