موسوعةالأخلاق الإسلامية-المسؤولية عن السلوك الأخلاقي (المسؤولية ذات طابع شخصي)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-المسؤولية عن السلوك الأخلاقي (المسؤولية ذات طابع شخصي)
361 0

الوصف

                                                                           موسوعةالأخلاق الإسلامية

                                                                        المسؤولية عن السلوك الأخلاقي

                                                                          المسؤولية ذات طابع شخصي

الباب الأول: مقدمات وأسس عامة >> الفصل الرابع >> (ب) المسؤولية ذات طابع شخصي

(ب) المسؤولية ذات طابع شخصي:

من الواضح في المفاهيم الإسلامية، وقواعد العدل الربانية، أن المسؤولية عن السلوك مسؤولية شخصية، لا تحمل مواريث الأصول الأقربين والأجداد والآباء الأولين، ولا تتحمل نصيبًا من سلوك الأهل والأقارب والعشيرة المعاصرين، ولا تورث تبعاتها للذراري القادمين، والنصوص الإسلامية الدالة على ذلك كثيرة، منها قول الله تعالى في سورة (البقرة 2):

(لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ .... (286) ).

وقول الله تعالى في سورة (الأنعام 6):

(وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون (164)) .

وقول الله تعالى في سورة (النساء 4):

(وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) ).

وقول الله تعالى في سورة (الإسراء 17):

(وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)) .

وقول الله تعالى في سورة (لقمان 31):

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (33)) .

وقول الله تعالى في سورة (غافر 40):

(الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) ).

وقول الله تعالى في سورة (الأحقاف 46):

(وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (19) ).

وقول الله تعالى في سورة (النجم 53):

(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَن لَّيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى (41) ).

فهذه النصوص القرآنية ونظائرها تقرر بوضوح تام أن المسؤولية عن السلوك مسؤولية شخصية، فلا يتحمل أحد وزرًا من عمل غيره، دون أن يكون له فيه كسب ما، ولا ينال ثوابًا من عمل غيره، دون أن يكون له فيه كسب ما.

ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم للأقربين من عشيرته:

اعملوا لأنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئًا

ونادى بذلك جملة من صفوة أقاربه حتى بلغ إلى ابنته فاطمة فقال لها:

يا فاطمة بنت محمد اعملي لنفسك لا أغني عنكم من الله شيئًا.

وقال صلوات الله عليه:

ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه

                                    : من حديث طويل رواه مسلم عن أبي هريرة، أوله.

من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا ....



                                      انظر الباب الخامس من هذا الكتاب، الفقرة (7).  

فالجزاء عند الله بالثواب أو بالعقاب لا تحويل فيه، ولا امتداد ولا اشتراك، مهما تدانت القرابة. وتأتي مسؤولية الآباء والأجداد عن صور القدوة والتربية التي قدموها لأبنائهم وأحفادهم، وتأتي مسؤولية الأبناء والأحفاد عن التقليد الأعمى أو البصير لآبائهم وأجدادهم في عاداتهم ومفاهيمهم وطرائق سلوكهم.

والله تعالى يقول في سورة (البقرة 2):

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)) .

فلا مجال في العدل الرباني لتصور خطيئة موروثة، ولا لأخذ البريء بخطيئة المذنب، بل كل فرد مسؤول وحده عن عمله. وقد يبدو أن قاعدة العدل هذه تتعرض لبعض الاستثناءات، إلا أن التأمل الدقيق يكشف مواطن الشُّبَهِ، ويدفعها بالحلول المنطقية المقبولة، فمن ذلك ما يلي:

(أ) أما مخاطبة أحفاد اليهود بذنوب آبائهم وأجدادهم فلأن هؤلاء الأحفاد لم يغيروا في حياتهم من خلائق آبائهم وأجدادهم شيئًا، وفي مفاهيمهم الحاضرة تبرير أعمال الأولين، ولو أنهم وجدوا في مثل ظروفهم لفعلوا مثل فعلهم، فمسؤوليتهم إذن عما هم عليه في واقع حالهم.

(ب) وأما مسؤولية الأمة بعامة عن أعمالها الجماعية، فإنها ترجع في حقيقتها إلى المسؤولية الشخصية؛ لأن كل واحد من الجماعة يتحمل قسطه من المسؤولية على مقداره من الجماعة، وينال من الجزاء على مقدار كسبه الشخصي، سواء أكان كسبًا إيجابيًّا أو كسبًا سلبيًّا.

(ج) وأما النصوص التي تثبت أن بعض المسيئين يتحملون أوزارًا من أوزار غيرهم من الناس، فإنما يتحملونها لأنهم كانوا أصحاب كسب ما في وجودها، باعتبار أنهم قادة مضلون، أو دعاة إلى الشر، أو سانون سنة سيئة في الناس فاتبعهم من ورائهم مقلدون لهم في الشر، ونحو ذلك.

وفي مقابل هذه النصوص وردت نصوص أخرى تثبت أن بعض المحسنين ينالون ثواب أعمالهم، وثوابًا آخر مماثلًا لثواب أعمال أناس آخرين، والسبب في ذلك أنهم كانوا أصحاب كسب ما في وجودها، باعتبار أنهم قادة مصلحون، أو دعاة إلى الخير، أو سانون سنة حسنة في الناس فاتبعهم من ورائهم مقلدون لهم في الخير، ونحو ذلك.

والسر في تحقيق هذه النتائج أن الإنسان مسؤول عن عمله الإرادي، وعن كل ما ينجم أو ينتج عن عمله الإرادي من آثار، فليس الأمر مقتصرًا على ذات العمل، أو على مجرد نتائجه المباشرة، ولكنه يشمل ذات العمل ونتائجه المباشرة وآثاره القريبة والبعيدة، حتى إن الإنسان ليموت وتظل صحيفة أعماله مفتوحة، يسجل فيها كل أثر يتجدد من آثار أعماله التي كان قد عملها في الدنيا وهو حي مكلف مسؤول.

وهي حقيقة مخيفة جدًّا، ولكنها مطمعة جدًّا بفعل الخير، وهي منسجمة مع سنة الله في كونه، فإن الإنسان قد يفعل في الحياة المادية عملًا صالحًا يسيرًا، فينتج عنه خير كثير. إنه قد يزرع بذرة طيبة واحدة في أرض خصبة، فتمر السنون فنشاهد أن هذه الأرض قد امتلأت بالنبات الطيب، وغدا الجم الغفير من الناس ينتفعون من هذه البذرة الواحدة التي بذرها، مع أنها لم تأخذ منه إلا جهدًا يسيرًا. وإن الإنسان قد يفعل في الحياة المادية عملًا خبيثًا قليلًا، فينتج عنه شر مستطير، إنه قد يقذف بمقدار بذرة الزرع جراثيم وبائية في ماء مدينة من المدن، فتتكاثر هذه الجراثيم الوبائية، حتى يعم الوباء المدينة، ويتسبب بقتل وتعذيب الجم الغفير من أهلها. فمن العدل أن يجني الأول ثمرة العمل الصالح الذي عمله على قدر آثاره، مهما نتج عنه من آثار حسنة، وأن يتحمل الثاني جريرة العمل الخبيث الذي عمله على قدر آثاره، مهما نجم عنه من آثار سيئة، وذلك ما تقضي به قواعد الجزاء الربانية.

وقد تكاثرت النصوص الشرعية التي تؤكد هذه الحقيقة، فمنها النصوص التالية:

1- يقول الله تعالى في سورة (النحل 16):

(لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)) .

فالمضلون يتحملون آثامهم وآثامًا مماثلة لآثام الذين تأثروا بهم فاستجابوا لإضلالهم؛ دون أن ينقص هذا من مسؤولية أتباعهم شيئًا.

2- ويحكي الله لنا مقالة بعض أهل النار يوم القيامة فيقول في سورة (الأحزاب 33):

(وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) ).

3- وجاء في كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل:

أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين.

                                                                                 

فقد بين الرسول له أنه إذا أسلم آتاه الله أجره مرتين، وذلك لأن لإسلامه أثرًا في توجيه أتباعه ومقلديه إلى الحق، وإن تولى تحمل إثم كفره وإثم كفر الأريسيين،  حقق الشيخ أبو الحسن الندوي أنهم أتباع "أريويس" من النصارى، وأريويس كان صاحب مذهب في النصرانية ينكر فيه ألوهية عيسى عليه السلام ويثبت أنه عبد الله ورسوله، انظر كتابه "السيرة النبوية".   وهم من لهم صفة التبعية لأمرائهم ورؤسائهم.

4- وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا.

ففي هذا الحديث تصريح جلي بأن الإنسان ينال ثواب عمله الصالح، وثواب كل الآثار التي تنتج عن عمله الصالح، فمن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه في دعوته، وهذا يشمل كل من يتبعه إلى يوم القيامة، ولكلٍ من التابعين أجورهم على أعمالهم، لا ينقص منها شيء، أي: لا يقتطع منها لصالح من دعاهم شيء، ولكن الله يعطي الجميع من فضله. وفي هذا الحديث تصريح جلي بأن الإنسان يتحمل جزاء عمله، وجزاء كل الآثار التي تنجم عن عمله، فمن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه في ضلالته، وهذا يشمل أيضًا كل من يتبعه إلى يوم القيامة، وعلى كل واحد من التابعين جزاء عمله، لا ينقص منه شيء بسبب تحمل من كان السبب في إضلالهم مثل أوزارهم.

5- ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي:

من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من أوزارهم  شيئا .