موسوعة الأخلاق الإسلامية-المسؤولية عن السلوك الأخلاقي (النية من غير عمل)

موسوعة الأخلاق الإسلامية-المسؤولية عن السلوك الأخلاقي (النية من غير عمل)
450 0

الوصف

المسؤولية عن السلوك الأخلاقي 

النية من غير عمل

ظهر لنا أن النية من العمل هي المناط المحجوب الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب، ومن ارتضى من ملك أو رسول.

ولكن لو وجدت النية وحدها، دون أن تترجم إلى عمل مادي، فهل تكون مناطًا للمسؤولية التي يبنى عليها الحساب والجزاء عند الله؟

لدينا عدة نصوص شرعية، والبحث العلمي السليم يفرض علينا أن نجمع بينها بطريقة توضح لنا الحقيقة الإسلامية، دون أن ننساق وراء بادئ الرأي الذي يخطر لنا من واحد منها فقط، وإلا وقعنا في مفاهيم خاطئة، انسياقًا وراء ما يظهر لنا من بعض النصوص، ونحن غافلون عما تدل عليه النصوص الأخرى، أو جاهلون به.

فمن النصوص التي لدينا في هذا الموضوع ما يلي:

1- روى البخاري ومسلم عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار

قال أبو بكرة: قلت يا رسول الله: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال:

إنه كان حريصًا على قتل صاحبه.

2- وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

يقول الله تعالى: إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة، فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا هم بسيئة فلم يعملها لم أكتب عليه، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة.

3- وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إن الله تجاوز عن أمتي ما وسوست به صدورها، ما لم تعمل به أو تتكلم

، وعند مسلم:

إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به.

4- وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال:

إن الله تعالى كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله تعالى عنده حسنه كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة.

5- وروى البخاري عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إذا مرض العبد أو سافر كتب له بمثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا.

6- وروى الإمام مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال:

إن بالمدينة لرجالًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم حبسهم المرض

وفي رواية:

إلا شركوكم في الأجر.

7- وروى الإمام البخاري عن أنس قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

إن أقوامًا خلفنا في المدينة ما سلكنا شعبًا ولا واديًا إلا وهم معنا، حبسهم العذر.

8- وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إن الله تعالى لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم.

9- وروى الدارمي بإسناد ضعيف عن المهاجر بن حبيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

قال الله تعالى إني لست كل كلام الحكيم أتقبل ولكني أتقبل همه وهواه، فإن كان همه وهواه في طاعتي جعلت صمته حمدًا لي ووقارًا وإن لم يتكلم.

10- وسوى الرسول صلى الله عليه وسلم بين عبدين: أحدهما رزقه الله علمًا ومالًا فعمل صالحًا، والآخر رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالًا فقال: لو أن لي مالًا لعملت بعمل فلان، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:

فهو نيته فأجرهما سواء

وكذلك سوى بين مقابليهما.  من حديث طويل رواه الترمذي بإسناد صحيح عن أبي كبشة، أوله

ثلاثة أقسم عليهن

 انظر الباب الخامس من هذا الكتاب الفقرة 4.  

فمن جملة هذه النصوص نستطيع أن نستخلص عدة مفاهيم إسلامية،
ونجمع بينها في نسق فكري متكامل، يظهر كمال العدل الرباني، وكمال الفضل في موضوع الأعمال والنيات الباعثة عليها.

(أ) فمن قول الرسول صلى الله عليه وسلم:

إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار

ومن جوابه لأبي بكرة في تعليل عذاب المقتول مثل عذاب القاتل بقوله:

إنه كان حريصًا على قتل صاحبه

نستدل على أن سبب مؤاخذة المقتول نيته التي كان مصممًا على تنفيذها، وحريصًا عليه، ولو لم يظهر لنيته أثرٌ مادي، إذ عاجله أجله، فمنعه من التنفيذ، ولو تمكن من ذلك لم يقصر.

فمسؤوليته نيطت بنيته الجازمة التي لم يصرفها بنية أخرى، مع أن هذه النية لم تترجم في الواقع إلى عمل ذي أثر. أما التلاقي بالسيوف على سبيل التهديد ومن غير أن يكون القتل غايته؛ فليس جزاؤه مثل جزاء القتل، إلا أن تساوي القاتل والمقتول في العقوبة يشعر بأن تساويهما في النية هو السبب في ذلك. وفي قول الرسول:

إنه كان حريصًا على قتل صاحبه

إفصاح كافٍ عن المناط الذي تعلق بسببه الجزاء، وهو الحرص على القتل، والحرص على القتل هو النية المصحوبة بإرادة وتصميم ومحاولة للتنفيذ، ثم كان المانع من التنفيذ أمرًا خارجًا عن إرادة صاحب هذا الحرص.

هذا في جانب المؤاخذة، ونظير ذلك يقال في جانب الثواب: فالنية الصالحة الجازمة المصحوبة بإرادة وتصميم –وهي التي يكون المانع من تنفيذها أمرًا خارجًا عن إرادة صاحبها، وكذلك التي يكون المانع من تنفيذها عذرًا طارئًا يبرر عدم تنفيذها في نظر الشارع- كافية في ترتب الثواب كله، كما لم تم معها تنفيذ العمل، ويدل على ذلك حديث:

إذا مرض العبد أو سافر كتب له بمثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا

وحديث:

إن بالمدينة لرجالًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا شركوكم في الأجر حبسهم المرض

وحديث:

إن أقوامًا خلفنا في المدينة ما سلكنا شعبًا ولا واديًا إلا وهم معنا، حبسهم العذر.

وهذا ما ذهب إليه عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين.

قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم، عند شرحه لحديث:

إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به.

(مذهب القاضي أبي بكر بن الطيب أن من عزم على المعصية بقلبه، ووطن نفسه عليها أثم في اعتقاده وعزمه، ويحمل ما وقع في هذه الأحاديث وأمثالها على أن ذلك فيمن لم يوطن نفسه على المعصية وإنما مر ذلك بفكره من غير استقرار، ويسمى هذا همًا، ويفرق بين الهم والعزم...

قال القاضي عياض، رحمه الله: عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين على ما ذهب إليه القاضي أبو بكر، للأحاديث الدالة على المؤاخذة بأعمال القلوب).

ثم قال النووي تعقيبًا على ما ذكره القاضي عياض:

(هذا آخر كلام القاضي، وهو ظاهر حسن لا مزيد عليه، وقد تظاهرت نصوص الشرع بالمؤاخذة بعزم القلب المستقر، ومن ذلك قوله تعالى في سورة (النور 24):

(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ .... (19) .

وقوله تعالى في سورة (الحجرات 49):

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ (12) .

والآيات في هذا كثيرة، وقد تظاهرت نصوص الشرع وإجماع العلماء على تحريم الحسد، واحتقار المسلمين، وإرادة المكروه بهم، وغير ذلك من أعمال القلوب وعزمها، والله أعلم).

انتهى كلام النووي رحمه الله تعالى.

(ب) أما إذا ضعفت النية عن التنفيذ بسبب تناقص مستوى الإرادة الجازمة، أو بعارض داخلي ثبط الهمة لكسل أو مشاغل: فإذا كانت نية حسنة كتبت له بمعدل حسنة واحدة من غير مضاعفة، بخلاف التي ترقى إلى مستوى التنفيذ فإنها تضاعف إلى عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة حسب مقتضيات الفضل الإلهي، وذلك لأن الصارف لم يكن أمرًا خارجًا عن إرادة الإنسان، ولا عذر يبرره. وإذا كانت نية سيئة لم تكتب عليه مطلقًا؛ لأنها لم ترق إلى مستوى التنفيذ، حتى تكتب عليه بمعدل سيئة واحدة، حسب مقتضيات العدل الإلهي.

ويدل على ذلك حديث:

إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة، فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا هم بسيئة فلم يعملها لم أكتب عليه، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة.

فالهم الذي لم يرق إلى مستوى التنفيذ الفعلي، نية اقترنت بحركة نفسية لم تصل إلى حد التغلب على العوارض الداخلية في الإنسان، فلم يكن لها مستوى العمل الكامل، لذلك فإن فضل الله يشملها بالثواب على قدرها إذا كانت حسنة، وبالعفو عنها إذا كانت سيئة، تشجيعًا على ممارسة النيات الصالحات، والتراجع عن النيات السيئات، والهم يسهل صرف السيئ منه بملاحظة الخوف من الله، وابتغاء مرضاته، وطلب ثوابه، ومراقبة برهانه، ويسهل انصراف الحسن منه بالكسل أو بأي مثبط آخر من مثبطات النفس.

(ج) وأما إذا كان صرف النية الجازمة عن التنفيذ قد تم بنية مضادة: فإذا كانت الأولى نية حسنة كتبت له بمعدل حسنة واحدة من غير مضاعفة؛ لأنه قد شغل كيانه الداخلي بعمل من أعمال الخير فترة من الزمن، فالله لا يضيع له هذا العمل، فضلًا منه وكرمًا، ولو أوقفه عن التنفيذ بإرادته ونيته الثانية المضادة. وإذا كانت الأولى نية سيئة كتبت له بمعدل حسنة كاملة؛ لأنه نسخ هذه النية السيئة بنية أخرى مضادة وهذه النية الأخرى المضادة ناسخ حسن، فيعطى ثوابه بقوة نية حسنة.

ويدل على ذلك حديث:

إن الله تعالى كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة.

وجمعًا بين حديث أبي هريرة وحديث عبد الله بن عباس رأينا أن الهم في حديث عبد الله بن عباس قد جاءت نية أخرى تنسخه، لذلك يكتب الهم السيئ الذي لم يتم تنفيذه حسنة كاملة، نظرًا إلى الصارف الحسن الذي جاء عقبه. بخلاف الهم الذي ورد في حديث أبي هريرة فإنه