موسوعة الأخلاق الإسلامية-الحكم الأخلاقي وأسسه وغاياته (شروط ترتب المسؤولية 2 )

موسوعة الأخلاق الإسلامية-الحكم الأخلاقي وأسسه وغاياته (شروط ترتب المسؤولية 2 )
337 0

الوصف

المسؤولية عن السلوك الأخلاقي

 شروط ترتب المسؤولية

(ج) الشرط الثالث:

وهو أن تكون نية الإنسان وغايته المقصودة له من عمله الإيجابي أو السلبي ما ينتج عن العمل فعلًا من خيرٍ أو شر.

فإذا كان لصاحب العمل نية أو غاية أخرى غير ذلك؛ فإن المسؤولية الحقيقية عند الله تكون وفق نيته وغايته، دون ظاهر السلوك وما نجم عنه، وأما السلوك الظاهر فيكون عندئذٍ من قبيل العمل الملغى، وتكون نتائجه من قبيل القضاء والقدر المحض.

ولذلك تلغى عند الله أعمال المرائين والمنافقين، مهما كان مظهرها مظهر صلاح وخير ويحاسبون على نياتهم وغاياتهم التي كانوا يضمرونها في قلوبهم، ويتجاوز الله عن أعمال المسيئين، إذا كانت نياتهم التي يضمرونها في قلوبهم نيات صالحة، بشرط أن يكونوا معذورين في أخطائهم بممارسة الأعمال السيئة.

وقد دلنا الله على هذه الحقيقة بعدة نصوص، منها قول الله تعالى في سورة (البقرة 2):

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) .

ومنها قوله تعالى في سورة (البقرة 2):

(لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) .

ولما كانت دوافع الأعمال ما تكنه الصدور من نيات؛ كان الابتلاء موجهًا لما في الصدور، قال الله تعالى في سورة (آل عمران 3):

(وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) .

ولما كان الخطأ خاليًا من القصد القلبي، كان من مقتضى العدل الرباني رفع الجناح عنه، قال الله تعالى في سورة (الأحزاب 33):

(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (5) .

هذا عند الله لأن الله يعلم ما في قلوب عباده من نيات ومقاصد، ولذلك كانت النيات عنده هي مناط المسؤولية، ومناط ترتيب الجزاء.

والنص الكلي الجامع في هذا الباب هو ما جاء في الحديث الصحيح الذي يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيه:

إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه.

فالأعمال تحدد قيمتها الحقيقية بقيمة النيات الباعثة عليها، أما مظاهر الأعمال المادية فلا قيمة لها وحدها، لكن إذا استوت النيات فإنه ينظر بعد ذلك إلى قيم الأعمال المتفاوتة، والله تعالى لا يضيع مثقال ذرة من عمل يبتغى به وجهه.

أما بالنسبة إلى الناس وأحكامهم الجزائية، فبما أن النيات خفيات عليهم غير ظاهرات؛ فإنهم مضطرون أن يحكموا على أعمال الناس بحسب ما يظهر منها، ومما يظهر منها ما يكون قرينة مرجحة دالة على النية، فتؤخذ حينئذٍ بعين الاعتبار، وذلك لأن ظاهرة العمل دليل مادي على الغرض منه. فإذا رافق هذه الظاهرة قرائن تدل على أن الغرض شيءٌ آخر كانت هذه القرائن أدلة مادية أخرى معارضة، وعند تعارض الأدلة يلجأ القاضي إلى الترجيح، أو إلى أخذ كل من الدليلين بعين الاعتبار، فيصدر أحكامًا توفيقية، لا أحكامًا مائلة ميلًا كاملًا إلى أحد الطرفين.

فمن أمثلة ذلك: ما لو سدد صياد سهمه ليصيد به صيدًا مباحًا، ثم أطلقه فأصاب إنسانًا، أما الله تبارك وتعالى فإنه يعلم نيته حتمًا فيحاسبه يوم القيامة عليها، سواء أكان غرضه من هذا السلوك إصابة الصيد المباح أو قتل الإنسان ظلمًا وعدوانًا. لكن حكم الناس عليه مقيد بالأدلة المادية الظاهرة، فحادثة القتل للإنسان دليل مادي ظاهر، والأصل فيه أن يدل على إرادة القاتل أن يقتله، إلا أن هذا الدليل قد اقترن به أدلة وقرائن أخرى، تدل على أن القاتل لم يكن يريد أن يقتل الإنسان، وإنما كان يريد أن يصيد صيدًا مباحًا، فالزمان والمكان وطبيعة السلوك وقرائن الأحوال تفيد ذلك، لكن هذه القرائن لا تكفي لإعطاء اليقين بأنه لم يكن يريد قتل الإنسان قطعًا، لاحتمال أن يكون قد رتب بمكر كل هذه القرائن، أو رآها موجودة فاستغلها. فمن الطبيعي والحالة هذه أن نلجأ إلى التوفيق والتوسط، فنعفي القاتل من القصاص، رعاية لاحتمال براءة النية من إرادة الجريمة، مع وجود القرائن التي تفيد ذلك، ونلزمه بالدية والكفارة رعاية لاحتمال إدانة النية بإرادة الجريمة. يضاف إلى ذلك أن الخطأ الذي قد يفضي إلى قتل بريء من الناس أمر تحيط به الملاحظات التالية:

1- أنه أمر جسيم يتعلق بحياة الناس.

2- احتمال ادعاء الخطأ على سبيل الكذب فرارًا من القصاص، وإسقاطًا لحق أولياء القتيل.

3- احتمال وقوع تهاون وتقصير أفضيا إلى القتل الخطأ.

ونظرًا إلى هذه الملاحظات المرافقة للقتل على سبيل الخطأ رفع الله عن القاتل خطأً حكم القصاص، عملًا بأصل القاعدة التي تتضمن رفع المسؤولية، وألزم القاتل بالكفارة، لتشتد حيطة الناس في مثل هذا الأمر الجسيم، وليبالغوا في البعد عن كل مظان الخطأ الذي قد يفضي إلى قتل البرآء. وألزم بالدية صيانة لحق أولياء القتيل، ومراعاة لاحتمال أن يكون ادعاء الخطأ ادعاء كاذبًا، مهما كانت القرائن مؤيدة صدق الادعاء؛ لأن التعمد الحقيقي عمل من أعمال القلوب، فربما يوجد دون أن تدل عليه أمارة ظاهرة. قال الله تعالى في سورة (النساء 4):

(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ ... (92) .

ورفقًا بحال القاتل خطأً جعل الإسلام الدية تكليفًا تعاونيًّا تلزم به العاقلة (العاقلة: أقرباء القاتل خطأً، أو قبيلته).