موسوعة الأخلاق الإسلامية-الحكم الأخلاقي وأسسه وغاياته (مستويات توجه النفس إلى العمل الإرادي ومواقع المسؤولية)

الوصف
المسؤولية عن السلوك الأخلاقي
مستويات توجه النفس إلى العمل الإرادي ومواقع المسؤولية
مما ندركه ونشعر به في أنفسنا أن رغبتنا أو نزوعنا إلى عمل ما، لا يصل إلى مستوى الإرادة الجازمة، حتى يمر بمستويات دون ذلك.
وقد يقف النزوع عند درجة من الدرجات الدنيا، التي هي تحت مستوى الإرادة الجازمة، وتسير المراحل في النفس وفق ما يلي:
1- توجه النفس:
وتبدأ الحركة النفسية بتوجه النفس إلى العمل توجهًا غير فاعل، فهو كالالتفات الجسدي إلى الشيء للنظر إليه، والبحث فيه، والتأمل، وهذا أمر خال من المسؤولية تمامًا.
وبعد هذا التوجه قد يحدث الإعراض، وقد تتحرك النفس بميل ما إلى العمل. قبل توجه النفس يأتي الإدراك، ولكن بحثه ليس من الموضوع الذي نعالجه الآن.
2- الرغبة:
ومع الميل النفسي قد تأتي أحاديث النفس ووساوسها، وهذا مستوىً أعلى وأقوى من مستوى توجه النفس المجرد. وقد تفضل الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم فتجاوز عنها أحاديث الصدور ووساوس النفوس، التي لا يكون لها أثر عملي داخلي أو خارجي.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن الله تجاوز عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل به أو تتكلم
.
وهذا الميل النفسي وما يصاحبه من وساوس، إذا لم يصل إلى مستوى حركة النفس للتنفيذ فهو الرغبة، وللرغبة درجات.
وقد جاء استعمال الرغبة في القرآن الكريم للدلالة على ميل النفس إلى الشيء دون الهم بتحقيق المرغوب، قال الله تعالى في سورة (النساء 4):
(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ .... (127) .
3- الهم:
وفوق مستوى الرغبة المجردة يأتي مستوى الهم بالتنفيذ، ونفهم من الهم أنه أول الحركة النفسية لتقرير تنفيذ ما اتجهت الرغبة له، ويبدو أنه دون مستوى القرار الإرادي الجازم، فهو وسط بين الرغبة وتوجه الإرادة الجازمة، والاستعمالات القرآنية للهم تشعر بذلك، ففي الاستعمالات القرآنية للهم ما يلي:
(أ) قول الله تعالى في سورة (المائدة 5):
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ... (11) .
وفي بيان حادثة هذا الهم ذكر المفسرون عدة أقوال، منها محاولة اليهود اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم حين قدم إليهم ليشاركوا حسب المعاهدة المتفق عليها في دية قتيلين مشركين من بني عامر قتلهما أحد المسلمين واسمه عمرو بن أمية، ومعهما عقد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعلم به عمرو.
وقيل نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه حين هموا أن يغدروا بمحمد وأصحابه في دار كعب بن الأشرف.
(ب) وقول الله تعالى لرسوله في سورة (آل عمران 3):
(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) .
هذا النص يشير إلى موقعة أحد كما ذكر جمهور المفسرين. أما الطائفتان اللتان همتا بالفشل، فقد روى البخاري عن عمر قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: فينا نزلت: (إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَن تَفْشَلاَ ..)الآية. قال: نحن الطائفتان (بنو حارثة) و(بنو سلمة) وما يسرني أنها لم تنزل لقوله تعالى: (وَاللهُ وَلِيُّهُمَا) .
فهاتان الطائفتان همتا أن تفشلا؛ أي: همتا بعمل ما من شأنه أن يؤدي إلى الفشل، ولكن همهما لم يصل إلى مستوى القرار الإرادي الجازم، فلم يتخل الله عن ولايتهما.
(ج) وقول الله تعالى في سورة (غافر 40):
(وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ... (5) .
مع أن هم الأمم بأخذ رسولهم وقتله لم يصل إلى مستوى القرار الجازم إلا في أمثلة محدودة ومن قبل بعض الأفراد، ولكنه كان نزوعًا قويًّا بلغ درجة أول الحركات النفسية المتجهة لتحقيق ما رغبوا به.
(د) وقول الله تعالى في شأن مشركي مكة في سورة (التوبة 9):
(أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ ... (13) .
والمعروف أن فريقًا من مشركي مكة دبروا مكيدة قتل الرسول، لكن معظم المشركين قد حصل في نفوسهم هم بإخراجه من مكة ولم يفعلوا، إذ لم يكن منهم توجيه مباشر لإخراجه، فكان خروجه صلى الله عليه وسلم في الليلة التي حاول فيها مدبرو قتله تنفيذ مكيدتهم.
(هـ) وقوله تعالى في شأن سيدنا يوسف عليه السلام وامرأة العزيز في سورة (يوسف 12):
(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ (24) .
إن إرادة الفاحشة من امرأة العزيز قد كانت قرارًا جازمًا حاولت تنفيذه بالمراودة وتغليق الأبواب، وإن إرادة العفة من يوسف عليه السلام قد كانت قرارًا جازمًا ظهر أثره بقوله: (مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).
ثم جاء بعد ذلك هم به من قبلها، وهم بها من قبله، وينبغي أن يكون متعلق الهم هنا موضوعًا آخر غير الموضوع الأول، ويظهر أنها همت بضربه فلحقت به لتطويعه أو ثأرًا لكرامتها، وأنه هم بأن يقابلها بالمثل لصدها عنه ودفاعًا عن نفسه، لولا أن رأى برهان ربه، لكنه لما رأى برهان ربه آثر الهرب من مقابلتها فلحقت به فقدت ثوبه من دبر.
من كل هذه النصوص يظهر لنا أن المراد من الهم حركة النفس التي ارتقت عن مستوى الرغبة، وأعطت شيئًا من الدفع، ولكنها لم تصل إلى مستوى الإرادة الجازمة التي تدفع طاقة العمل المعتادة للتنفيذ.
وهذا المستوى من حركة النفس إذا كان في اتجاه الخير كان مأجورًا، وإذا كان في اتجاه الشر لم يترتب عليه الجزاء، حتى يصل إلى مستوى التنفيذ، سواء أكان من الأعمال الداخلية في الإنسان أو الأعمال الخارجية. وحين يقف هذا الهم عن التنفيذ بصارف إرادي يلاحظ فيه ابتغاء مرضاة الله، يكتب الله لصاحبه حسنة بسبب كفه عن سيئةٍ هم بها فلم يفعلها طاعة لله. هذا ما دل عليه الحديث التالي:
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس، عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل، قال:
إن الله تعالى كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها، كتبها الله تعالى عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة
.
وهذا من فضل الله على عباده.
4- الإرادة الجازمة:
وفوق مستوى الهم بالأمر تأتي الإرادة الجازمة، وهي بلوغ الاتجاه النفسي نحو الشيء ذروة الجزم به.
وحين يبلغ الاتجاه النفسي نحو عمل ما ذروة الجزم به فالنتيجة الطبيعية هي العمل على تنفيذ المراد، باستخدام القوى المعتادة من مستوى الدرجة الدنيا والوسائل التي ليس فيها مشقات زائدة، فإذا ظهرت صعوبات زائدة فقد تفل حد الإرادة، وتوقف طاقة العمل عن متابعة التنفيذ.
فهذا المستوى من الإرادة قد لا يملك القدرة على توجيه دفع لتنفيذ العمل المراد أكثر من دفع القوى العادية، القادرة على مغالبة بعض الصعوبات.
ويظهر أن الإرادة الجازمة هذه ذات درجتين:
فالدنيا منهما قادرة بأدنى توجيه على تنفيذ ما تميل إليه النفوس.
وفوقها الإرادة القادرة على تنفيذ ما فيه تكليف عادي وصعوبات وسطى.
وقد استعملت الإرادة في القرآن الكريم للدلالة على بلوغ الاتجاه النفسي نحو عمل ما مستوى الجزم به، ولا يشترط في هذا الجزم أن يقترن به رغبة شديدة أو إصرار وعزم. ومن أمثلة ذلك قول الله تعالى في سورة (الإسراء 17):
(مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19) .
فمريد العاجلة –وهي الحياة الدنيا وزينتها- يجد سبله إليها ميسورة، إذ لا تقف في نفسه عقبات صادة، نظرًا إلى أن حب العاجلة متأصل في نفسه، فهو إذن يعمل للوصول إلى ما يريد ببذل طاقات التنفيذ العادية، فيعجل الله له من الدنيا ما تقضي به مشيئته وفق سنته.
ولكن من أراد الآخرة فلا بد أن يسعى لها سعيها مع شرط الإيمان حتى ينال جزاءه، وكان لا بد من بيان هذا السعي للآخرة؛ لأن الإرادة وحدها، وما تستخدمه من طاقات التنفيذ العادية، قد لا تكفي للتغلب على عقبات النفس المعارضة، بل تحتاج إلى طاقات زائدة نسبيًّا على مستوى طاقات التنفيذ العادية. فالقضية هنا فيها مصارعة ومغالبة لأهواء النفس وشهواتها، ولا تشحن هذه الطاقات الزائدة ما لم ترق نسبة قوة الإرادة عن المستوى العادي للتنفيذ، ولو بمقدار يسير.
ومن الأمثلة أيضًا قول شعيب لموسى عليهما السلام: إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين، وقد حكى الله ذلك بقوله في سورة (القصص 28):
(قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) .
فإرادة شعيب عليه السلام قد زادت على مستوى الرغبة المجردة، حتى وصلت إلى القدر الذي جعله يعلن عرضه وشرطه، وينتظر موافقة الطرف الآخر التي لا يملكها هو.