موسوعة الأخلاق الإسلامية-الحكم الأخلاقي وأسسه وغاياته (الغاية من التزام قواعد الأخلاق)

موسوعة الأخلاق الإسلامية-الحكم الأخلاقي وأسسه وغاياته (الغاية من التزام قواعد الأخلاق)
384 0

الوصف

الحكم الأخلاقي وأسسه وغاياته

 الغاية من التزام قواعد الأخلاق

لدى التأمل في النصوص الإسلامية والمفاهيم العامة المقتبسة منها: نلاحظ أن الغاية من التزام فضائل الأخلاق والابتعاد عن رذائلها تنقسم إلى عنصرين:

العنصر الأول:

اكتساب مرضاة الله تعالى الخالق الرازق المنعم المحيي المميت، الذي يجازي على الحسنة بأضعافها، ويجازي على السيئة بمثلها، فإنه سبحانه يحب فعل الخير، ويكره فعل الشر، ومن استطاع أن يرضي الله تعالى بعمله الصالح ظفر بمقدار عظيم من سعادة الحياة الدنيا في دار الابتلاء، وظفر بمقدار أجل وأعظم من سعادة الآخرة في دار الجزاء.

والتزام مكارم الأخلاق التي أمر بها الإسلام أو رغب بفعلها، واجتناب نقائص الأخلاق التي نهى عنها الإسلام أو رغب بتركها، من الأعمال الصالحات التي يظفر عاملوها بنسب من مرضاة الله تعالى ملائمة لمقادير أعمالهم ونياتهم، ولذلك يكون نصيبهم من سعادة القلب وسعادة الجزاء المعجل في الحياة الدنيا؛ على مقدار ما حققوا بأعمالهم ونياتهم من مرضاة الله تعالى، ويكون نصيبهم المضاعف من السعادة العظمى في الآخرة ملائمًا لما حققوه بأعمالهم ونياتهم من مرضاة الله جل وعلا.

وباكتساب مرضاة الله تعالى تتحقق النجاة من الشقاوة والتعاسة، التي يجلبها الإنسان لنفسه بإسخاط ربه، فيما يقوم به من أعمال سيئات.

وهذا الجزاء المسعد لا يظفر به إلا من ابتغى مرضاة الله فأخلص له النية فيما يقوم به من صالح العمل.

هذا العنصر يتلخص:

أولًا:
بالظفر بسعادة معجلة دنيا، وسعادة مؤجلة أبدية خالدة، وهاتان السعادتان تأتيان جزاءً على أعمال صالحة ابتغي بها وجه الله تبارك وتعالى، وذلك لا يكون إلا مع الإيمان بالله.

ثانيًا:
بالنجاة من شقاوة يجلبها الإنسان لنفسه، بإسخاط ربه فيما يقوم به من أعمال سيئة، يخالف بها أوامر ربه ونواهيه.

العنصر الثاني:

تحقيق أقساط من السعادة المستطاعة التحقيق في ظروف الحياة الدنيا، وهي أنواع السعادة التي تمنحها سنن الله في كونه، الشاملة لجميع خلقه، من آمن به منهم ومن كفر به، والنجاة من أقساط من الشقاوة التي تجلبها الجرائم والجنايات وفق سنن الله في كونه، الشاملة لجميع خلقه، من آمن منهم ومن كفر به.

والتزام قواعد الأخلاق الإسلامية كفيل بتحقيق أكبر نسبة من هذه السعادة للفرد الإنساني، وللجماعة الإنسانية، ثم لسائر الشركاء في الحياة على هذه الأرض وذلك بطريقة بارعة جدًّا يتم فيها التوفيق بالنسب المستطاعة بين حاجات ومطالب الفرد من جهة، وحاجات ومطالب الجماعة من جهة أخرى، ويتم فيها إعطاء كل ذي حق حقه، أو قسطًا من حقه وفق نسبة عادلة اقتضاها التوزيع العام المحفوف بالحق والعدل.

فمن الواضح في هذا العنصر أن أسس الأخلاق الإسلامية لم تهمل ابتغاء سعادة الفرد الذي يمارس فضائل الأخلاق ويجتنب رذائلها، ولم تهمل ابتغاء سعادة الجماعة التي تتعامل فيما بينها بفضائل الأخلاق مبتعدة عن رذائلها.

وروعة الأخلاق التي أرشد إليها الإسلام، تظهر فيما اشتملت عليه من التوفيق العجيب بين المطالب المختلفة للفرد من جهة، وللجماعة من جهة أخرى، وتظهر فيما تحققه من وحدات السعادة الجزئية في ظروف الحياة الدنيا، بقدر ما تسمح به سنن الكون الدائمة الثابتة، التي تشمل جميع العاملين، مؤمنين بالله أو كافرين، أخلصوا له النية أو لم يخلصوا.

بخلاف العنصر الأول فإنه لا يتحقق إلا لمن آمن بالله وأخلص له في العمل.

عناصر السعادة:

وحين نتساءل عن العناصر التي يشعر الإنسان فيها بالسعادة نجد أن أهم هذه العناصر مشاعر اللذات، ومشاعر الخلو من الآلام.

ولذات الجسد وآلام الجسد أهون اللذات والآلام قيمة، ولكنها تدخل ضمن الوحدات الجزئية التي تمنح الإنسان قسطًا من السعادة، كرذاذ سريع الجفاف ولا يملأ ساحة النفس والقلب والروح.

وفوقها تأتي لذات النفس وآلامها، فهي أعمق وأشمل، ومدة بقائها أطول.

وفوقهما تأتي لذات الروح وآلامها، فهي أعمق منهما؛ وأشمل منهما، وأبقى منهما.

وقد تطغى لذة النفس على ألم الجسد فلا يشعر الإنسان بألم الجسد، وقد تطغى لذة الروح على ألم النفس فلا يشعر الإنسان بألم النفس.

فمغانم السعادة تأتي على مقدار قيمتها الحقيقية.

وقد تطغى آلام النفس على لذات الجسد، فلا تكون للذات الجسد أية قيمة، وقد تطغى آلام الروح على لذات النفس، فلا تكون للذات النفس أية قيمة، فمصائب التعاسة والشقاء تأتي على مقدار قيمتها الحقيقية أيضًا.

فأعلى أنواع السعادة ما يأتي عن طريق لذات الروح، وينبع من داخل كيان الإنسان. وأشد أنواع التعاسة والشقاء ما يأتي عن طريق آلام الروح، وينبع من داخل كيان الإنسان، ولا يأتيه من خارج عنه. ودون ما يأتي عن طريق الروح ما يأتي عن طريق النفس، ودونهما ما يأتي عن طريق الجسد.

وهذا الذي نبهت عليه النصوص الإسلامية، هو ما انتهى إليه معظم عقلاء الفلاسفة والأخلاقيين والمفكرين المنصفين.

ومما لا ريب فيه أن أنواع اللذات كلها قد تساهم مساهمة ما في اغتنام أقساط من السعادة، ما لم تعارضها آلام أشد منها وأقوى وأدخل في أعماق الإنسان. كما أن أنواع الآلام كلها قد تساهم مساهمة ما في الإصابة بأقساط من التعاسة والشقاء، ما لم تعارضها لذات أشد منها وأقوى وأدخل في أعماق كيان الإنسان.

والإسلام لم يهمل أي نوع من أنواع اللذات والآلام، ولكنه قد أدخلها جميعًا في حسابه، ثم أقام قواعد التوفيق الأخلاقي على هذا الأساس.

وبالإضافة إلى ملاحظة اللذات والآلام لاغتنام أكبر قسط مستطاع من السعادة للفرد والمجتمع، أدخلت الأخلاق الإسلامية في حسابها –الذي أقامت عليه قواعد الأخلاق- المصالح والمفاسد، والمنافع والمضار، العاجل من كل ذاك والآجل للفرد وللجماعة، وأجرت بين المتعارضات منها موازنات وتوفيقات عجيبة، كفيلة بجلب أعظم نسبة مستطاعة من الخير، ودفع أكبر نسبة يستطاع دفعها من الشر، مع المحافظة على العدل بين ذوي الحقوق، ضمن ظروف هذه الحياة الدنيا.

وفي الشريعة الإسلامية وفرة من النصوص المشيرة إلى السعادة بوصفها غاية منشودة، وإلى اللذة بوصفها أمرًا قد توجد به أو معه السعادة.

ووفرة أيضًا من النصوص المشيرة إلى الشقاء الذي يدخل الحذر منه واتخاذ الوسائل لتفاديه ضمن الغاية المنشودة، ومن النصوص المشيرة إلى الألم بوصفه أمرًا قد يوجد به أو معه الشقاء.

فمن هذه النصوص ما يلي:

(أ) يقول الله تبارك وتعالى في معرض الحديث عن يوم القيامة في سورة (هود 11):

(يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108).

ففي هذا النص القرآني بيان للغاية العظمى التي ينشدها المؤمنون الذين يعملون الصالحات، ألا وهو نيل السعادة الخالدة والنجاة من الشقاء. وفيه أيضًا بيان أن الناس في النتيجة ينقسمون إلى فريقين:

1- فريق شقي.

2- وفريق سعيد.

أما الفريق الشقي فهو الفريق الذي جحد وكفر وعمل عملًا سيئًا، استجابة لأهوائه وشهواته الأنانية، واتباعًا لخطوات الشيطان.

وأما الفريق السعيد فهو الفريق الذي آمن وأطاع واتقى وعمل عملًا صالحًا، استجابة لله وللرسول، وتلبية لدعوة الخير التي فيها حياة ناعمة سعيدة لمن استجاب لها.

(ب) ويقول الله تعالى في وصف الجنة في سورة (الزخرف 43):

(الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) .

تحبرون: تتنعمون وتسعدون.

ففي هذا النص بيان لأنواع من اللذات المسعدة، ومنها لذات النظر، إذ قال تعالى: (وَتَلَذُّ الأعْيُنُ) .

واللذة إحساس مسعد تشعر به النفس، وقد يكون طريقه إحدى الحواس الجسدية الظاهرة.

(ج) ويقول الله تعالى في سورة (الصافات 37):

(إِلاَّ عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ (46) لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47).

ففي هذا النص تنويه باللذة التي تأتي عن طريق الفم.

(د) واستعمل القرآن تعبيرًا أعم وأشمل من لفظ اللذة، هو التعبير بكلمة النعيم، للدلالة على أنواع من السعادة.

فمن ذلك قول الله تعالى في سورة (الانفطار 82):

(إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) .

وقول الله تعالى في سورة (الطور 52):

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ (20).

فاكهين: يتفكهون بأصناف الملاذ من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومناكح وغير ذلك.

ومن أجل ذلك تكرر في القرآن تسمية الجنة بأنها جنة النعيم، وتسمية الجنات بأنها جنات النعيم، إشعارًا بأن النعيم فيها من العناصر المسعدة لأصحابها المنعمين فيها.