موسوعة الأخلاق الإسلامية-مقدمات وأسس عامة ( درجات الحكم الأخلاقي وأنواعه ومصدره وأنواع أصحاب الحقوق )

موسوعة الأخلاق الإسلامية-مقدمات وأسس عامة ( درجات الحكم الأخلاقي وأنواعه ومصدره وأنواع أصحاب الحقوق )
343 0

الوصف

مقدمات وأسس عامة 

درجات الحكم الأخلاقي وأنواعه ومصدره 

تبعًا لاختلاف نسب وجود الحق أو الخير أو الجمال –من الناحيتين الكمية والكيفية- في القضايا الأخلاقية، يكون الحكم الأخلاقي في الإسلام، وتكون نسبته إلزامًا أو ترغيبًا بالفعل أو بالترك.

فبعض القضايا الأخلاقية ترتفع نسبة وجود الأسس فيها إلى مرتبة إيجاب الفعل والإلزام به، وبعضها تنزل فيها هذه النسبة إلى ما دون الوجوب، وتتفاوت درجات الترغيب بالفعل. وبعض القضايا الأخلاقية ترتفع نسبة وجود الأسس فيها إلى مرتبة التحريم والإلزام بالترك، وبعضها تنزل فيها هذه النسبة إلى ما دون التحريم، وتتفاوت درجات الترغيب بالترك.

وقد تتعارض مقتضيات الفعل والترك في القضية الأخلاقية، ويكون لبعضها رجحان على بعض، وتبعًا لذلك تكون نسبة الحكم الأخلاقي ونوعه.

وحين تتكافأ مقتضيات الفعل والترك تكافؤًا تامًا، من غير ترجيح لأحد الطرفين على الآخر، أو حين لا يوجد أي مقتضٍ أخلاقي للفعل ولا للترك، فإن مستوى القضية حينئذ يكون صفرًا، والحق المطلق حينئذ يكون لحرية الإنسان الشخصية، ومتى كان الحق كله للحرية الشخصية كان الحكم هو حكم الإباحة المطلقة، وعلى الآخرين حينئذ احترام هذا الحق، وعدم التعرض إليه بعدوان أو حجر، وفي هذا المجال تنطلق الحريات الشخصية انطلاقًا تامًا، دون أي إلزام أو ترغيب.

أمثلة:

(أ) فشكر المنعم بالوجود والحياة والعقل واجب أخلاقي متحتم، وعدم شكره كفر ورذيلة أخلاقية شنيعة، وهنا نلاحظ أن ارتقاء نسبة الحكم الأخلاقي في هذه القضية الأخلاقية تابع لارتقاء نسبة الحق فيها، إذ كمية الحق فيها كمية كبيرة، وكيفية الحق فيها كيفية عظيمة، والشعور بحق المنعم شعور تدركه العقول والنفوس بالبداهة، وهذا الحق في هذه القضية مسلط على إرادة المخلوق تسليطًا قويًّا، لذلك كان جحوده والتمرد عليه كفرًا.

(ب) بخلاف الصبر على المصيبة، فإن الحق الأخلاقي في هذه القضية ليس مسلطًا على إرادة الإنسان بمثل القوة التي يتمتع بها الحق الملزم بشكر الخالق، لما فيها من حق المصاب بإعلان الألم. ولذلك لم يكن للصبر على المصيبة من الحكم الأخلاقي مثل ما لشكر الخالق من حكم، وهنا يقتصر الحكم الأخلاقي على مستوى الترغيب بمقدار الاستطاعة، والإلزام بترك ما لا تدعو حاجة النفس إليه من لطم خدود وشق جيوب.

(ج) ومن أجل ذلك نلاحظ أن إعطاء الزكاة والنفقة الواجبة سلوك أخلاقي وديني مطلوب بصفة إلزامية، أما إعطاء الصدقة العامة والهدية ونحو ذلك فهو سلوك أخلاقي ديني مطلوب بصفة غير إلزامية؛ لأن حق المجتمع في الأول حق ضروري، أما حقه في الثاني فحق استحساني يدخل في باب ترفيه الآخرين، ويقف في مواجهته حق صاحب الكسب بأن يستمتع بماله استمتاعًا هو من باب الرفاهية، لا من باب الضرورة.

وحين تتعارض مقتضيات الأحكام الأخلاقية، كتعارض الحقوق، فإن الحكمة تقضي بالتوفيق بينها، وبعدم إلغائها أو إلغاء شيء منها إلغاءً كليًّا، ما لم تقض الضرورة ذلك.

وإنما تقضي الحكمة بالتوفيق لأن قيمة كل حق من الحقوق المتعارضة تتناقص بسبب التعارض، وبذلك تنخفض قوة مطالبتها بأداء الحق، ويكون التوفيق بإعطاء كل حق منها مقدارًا من مساحة الأداء يناسب مداه في عدالة التوزيع.

وقد نبه الرسول صلوات الله عليه على التوفيق الذي تقضي به الحكمة، في الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو بن العاص، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغه أن عبد الله حلف أن يصوم النهار ويقوم الليل ما عاش، فقال له:

صم وأفطر، ونم وقم، فإن لجسدك عليك حقًّا، وإن لعينيك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا، وإن لزورك عليك حقًّا

وفي رواية:

وإن لولدك عليك حقًّا

.  قال النووي في رياض الصالحين –بعد أن ساق الحديث برواياته-: كل هذه الروايات صحيحة، معظمها في الصحيحين، وقليل منها في أحدهما. الباب الرابع عشر، الاقتصاد في العبادة رقم الحديث 150.  

وأقر الرسول مقالة سلمان لأبي الدرداء، وصدقه بها، إذ قال سلمان:

إن لربك عليك حقًّا، وإن لنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حق حقه

فأتى أبو الدرداء النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال:

صدق سلمان

. من حديث رواه البخاري عن أبي جحيفة.

وهنا نلاحظ أن من الطبيعي أن تتعارض في حياة الإنسان هذه الحقوق، بمعنى أن كل حق منها يتطلب تفريغ الزمن لحسابه، واستنفاد الطاقة لحسابه، ولكن هذا يضيع الحقوق الأخرى، فكان لا بد من التوفيق، وذلك بإجراء القسمة العادلة، فيعطى لكل منها من الزمن ومن الطاقة على مقدار قوته بالنسبة إلى الحقوق الأخرى.

وحينما يقوى حق الإنسان على نفسه –وهو الحق الشخصي- تقل قيمة حق غيره عليه في موضوع الحق نفسه، فمن أمثلة ذلك: لو كان الإنسان في حالة ظمأ شديد يخشى منه الهلاك، وأخوه إلى جنبه مثله في ذلك، ثم جاءته شربة ماء تنقذه من الهلاك، إنه في هذه الحالة بين حقين متعارضين: حق نفسه عليه، وحق أخيه عليه، فإذا أمكنه التوفيق بين الأمرين، وذلك بأن يشرب ويسقي أخاه، ويكون بذلك نجاتهما، فهذا هو الواجب عليه، وقد قلل بهذا التوفيق من حق نفسه عليه، ومن قيمة حق أخيه عليه، فلم يعط هذا ولا هذا كل ما يطلب. وإذا لم يمكنه التوفيق بين الأمرين، كان له أن يقدم حق نفسه على حق أخيه، وفي هذه الحالة لم يلغ حق أخيه عليه، إلا أن قيمته قد ضعفت بسبب التعارض، إلى أن وصلت إلى مرتبة الاستحسان لا الوجوب، والاستحسان يرجح جانب الإيثار على الجانب الآخر، فالحكم الأخلاقي في هذا نزل من مرتبة الوجوب إلى مرتبة الاستحسان، وسبب ذلك طبيعة التعارض.

فإذا فرضنا أن نجاة صاحب الحق الشخصي أنفع للجماعة الإسلامية من نجاة أخيه، فإن الحق يكون في جانبه أقوى وأرجح من وجهين:

الأول:
حق نفسه عليه.

الثاني:
حق الجماعة المسلمة عليه.

وظاهر أن حقين يتواطآن على موضوع واحد أقوى من حق واحد، وقد يصل إلى منع الإيثار في مثل هذه الحالة.

أما إذا كان بقاء أخيه ونجاته أنفع للإسلام والمسلمين من بقائه هو ونجاته، فإن الأمر ينعكس عندئذ، فيقوى جانب الإيثار، وقد يصل إلى درجة وجوب التضحية بالنفس، محافظة على ما هو أرجح من حق نفسه عليه، وذلك لأن حق أخيه وحق الجماعة الإسلامية، وحق الله في تأييد الدين، أقوى بكثير من حق نفسه عليه. وعند التعارض ينبغي التضحية بالحق الأقل، رعاية للحق الأكثر، وفي مثل هذه الحالة تقل قيمة حق نفس الإنسان عليه، بالنظر إلى الحقوق الأخرى المعارضة له، إلى حد أن يكون هذا الحق كالأمر الملغى؛ لأنه لم يمكن التوفيق.

وبهذا نلاحظ كيف يكون الحكم الأخلاقي تابعًا لقيمة موجبه من حق أو خير أو جمال في القضية الأخلاقية، وكيف أن هذه القيمة قد تكون عرضة للارتفاع والانخفاض تبعًا لحساب تعارض الحقوق، أو تعارض المصالح والمنافع التي هي من قبيل الخير أو الجمال.

ولكن تحليل نسبة وجود مقتضيات الحكم الأخلاقي في كل قضية أخلاقية يحتاج إلى نظر دقيق، وبحث عميق، وقد تشتبه الأمور، ويختلط بعضها في بعض، فلا يعلم حقيقتها إلا قليل من الناس، والله تبارك وتعالى قد كفانا بالإسلام المهمة، فأنزل لنا الأحكام الأخلاقية جاهزة، مستوفية كل ما تحتاج إليه من بصر ونظر، وموافقة لما هي عليه في واقع الحال، إلا أنه لم ينص على فروق كبيرة في أحكام الأخلاق، غير ما يقع في المراتب التي أوضحناها في مراتب أحكام الأخلاق، تيسيرًا على الناس وتبسيطًا على الأفهام.

فالحكم الأخلاقي على اختلاف درجاته معادل لما في القضية الأخلاقية من نسبة الحق والخير والجمال فيها إيجابًا أو سلبًا.

ونسبة الثواب أو العقاب عند الله ملائمة لدرجة الحكم الإسلامي في العمل الأخلاقي، وملائمة لوزن العمل من الناحيتين الكمية والكيفية، ولمقدار مغالبة النفس فيه.

والسلوك الأخلاقي المطلوب فيه القيام بعمل ما، منه ما هو واجب شديد الوجوب، ومنه ما هو دون ذلك، حتى أول درجة المباح، وتتفاوت المحرمات وما دونها قوة وضعفًا تفاوتًا ظاهرًا.

والسلوك الأخلاقي المطلوب فيه الكف عن عمل ما، منه ما هو محظور شديد الحظر، ومنه ما هو دون ذلك حتى أول درجة المباح، وتتفاوت المحرمات وما دونها تفاوتًا ظاهرًا.

وعند مستوى درجة المباح يأتي حق الحرية المطلقة للإرادة الشخصية في أن تختار ما تشاء.

ونظرًا إلى التفاوت بين الواجبات وبين ما دونها، وبين المحرمات وبين ما دونها، وجدنا في أحكام الشريعة الإسلامية أن من الواجبات ما تركه كفر، ومنها ما تركه كبيرة، ومنها ما تركه صغيرة، وأن ما دون الواجبات منها ما فعله سنة مؤكدة، ومنها ما فعله سنة غير مؤكدة، ومنها ما هو مستحب. ونظير ذلك نلاحظ في المحرمات وفيما دون المحرمات، على أن التفاوت لا تحده مصطلحات لفظية، فهو أكثر من ذلك في واقع الحال.

وكل من السلوك الأخلاقي –سواءٌ أكان فعلًا أو تركًا- حق مسلط على إرادة الإنسان بنسب متفاوتة، فإذا وصلنا إلى درجة المباح جاء حق حرية الإرادة المطلقة في أن تختار ما تشاء، وهذا الحق حينئذ مسلط على الآخرين، إذ يطلب منهم عندئذ أن يحترموه، فيمنحوا الفرد حقه هذا، دون معارضة ولا حجز للحرية.

مصدر اكتساب الحق:

أما مانح هذه الحقوق فهو الله الخالق تبارك وتعالى، وقد جعل الله في فطر الناس الوجدانية وفي فطرهم الفكرية ما يدركون به هذه الحقوق، إذا كانت هذه الفطر في الأفراد سليمة من العوارض والأمراض، وسليمة مما يغشي عليها.

وتبيانًا لهذه الحقوق أنزل الله في شريعته للناس الأحكام الكفيلة بضمانها، وذلك بما بين في النصوص، وبما وضع معها من دلائل وأمارات. وهذه رحمة من الله بعباده حتى لا يضلوا ولا يختلفوا، وعن طريق الشرائع الربانية تصحح أخطاء الأفكار إذا هي أخطأت، وتصحح أخطاء الضمائر إذا اختلط عليها الأمر.