التعامل مع القرآن - خصائص القرآن ( الشريعة في القرآن)
الوصف
خصائص القرآن
الشريعة في القرآن
وإذا كان القرآن هو المصدر الأول للعقيدة، فهو كذلك المصدر الأول للشريعة، فالإسلام إيمان يصدقه العمل. والعقيدة هي المعبرة عن الإيمان، والشريعة هي المعبرة عن العمل، سواء كان هذا العمل مما يتصل بعلاقة الإنسان بربه كالعبادات الشعائرية الكبرى مثل: الصلاة التي عني بها القرآن، وكرر الحديث عنها في الأمن والخوف، والسفر والحضر، وأمر بالمحافظة على الصلوات والصلاة الوسطى، كما أمر بالسعي للصلاة من يوم الجمعة، واهتم ببعض شروطها من الطهارة: الوضوء والغسل، وأخذ الزينة، كذلك:التوجه نحو القبلة (البيت الحرام) . ومثل الزكاة التي كررها القرآن مع الصلاة في ثمانية وعشرين موضعا، ومثل الصيام الذي بين القرآن أهم أحكامه في سورة البقرة، والحج الذي بين جل أحكامه في سورتي البقرة والحج.
أم كان مما يتصل بعلاقة المرء بأسرته: زوجا وأبا وأما وأولادا وأرحاما. وقد بين القرآن ذلك في كثير من سوره المكية والمدنية.
أم كان مما يتصل بالعلاقات المدنية والمالية والسياسية بين الأمة بعضها وبعض، أم بالعلاقات الدولية بين الأمة الإسلامية وغيرها من الأمم في السلم أو في الحرب، في القوة والضعف.
إلى غير ذلك مما جاءت به شريعة القرآن، وتضمنه ما عرف لدى دارسي العلوم الإسلامية بـ (آيات الأحكام) .
وبعض الناس يقولون: إن كلمة (شريعة) لم تذكر في القرآن إلا مرة واحدة، وفي القرآن المكي، أي قبل أن تنزل الأحكام والتشريعات التي تنظم المجتمع، وتضبط الحياة في القرآن المدني. يقصدون بهذه المقولة: أن القرآن لم يهتم بأمر الشريعة!
يريدون بهذه الآية قوله تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ)(الجاثية: 18، 19)
وعدم ذكر القرآن لكلمة (شريعة) إلا مرة واحدة، لا يعني أن القرآن لا يهتم بالشريعة، وإلا قلنا: إن القرآن لا يهتم بالعقيدة، لأنه لم يذكر كلمة العقيدة في أي سورة من سوره، ولا آية من آياته، وقلنا: إنه لا يعنى بالأخلاق، لأنها لم تذكر إلا مرة واحدة في الثناء على الرسول الكريم، وفي معرض الدفاع عنه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(القلم: 4)
المهم هو مضمون هذه المصطلحات لا ألفاظها، ومضمونها مبثوث في أوامر القرآن ونواهيه وتوجيهاته في سوره المكية والمدنية.
صحيح أن عناية القرآن بأمر العقيدة أعظم وأوكد، وكذلك بأمر الأخلاق وأصول الفضائل، ولكنه كذلك لم يغفل أمر الشريعة، أمر المنهاج العملي لحياة الفرد المسلم، وحياة المجتمع المسلم، الذي ناداه الله في أكثر من تسعين آية بهذا النداء الرباني: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وهو نداء جديد قرع سمع الجزيرة العربية لأول مرة، بعد أن كان الناس يقولون: يا عرب، يا عجم، يا بني فلان: فإذا هم ينادون بوصف الإيمان. وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه:
إذا سمعت الله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فأصغ لها سمعك، فإنه خير تؤمر به، أو شر تصرف عنه.
وقد قال بعضهم: إن الدنيا أهون من أن يأتي الدين لتنظيمها. وهذا كلام مدخول ومردود، فالدنيا هينة بالنسبة للآخرة، ولكنها قيمة جدا وثمينة جدا، لأنها مزرعة الآخرة ودار الإعداد لها، فالإنسان يعد ويعمل هنا للخلود هناك، وعمر الإنسان المحدود في الدنيا في غاية النفاسة، لأنه رأس مال الإنسان الذي يستغله لعمل الصالحات، والقيام بخلافة الله في الأرض.
ولا عجب أن أنزل الله أطول آية في كتابه الخالد، لتنظيم شأن من شئون الدنيا، وهو كتابة الدين، وهي الآية المعروفة بآية المداينة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ....)(البقرة: 282)
وقد اختلف العلماء في عدد الآيات التي عنيت بالشريعة – أو ما عرف باسم آيات الأحكام – فقيل: إنها نحو خمسمائة، وقيل أكثر.
ويلاحظ أن القرآن يسكت عن الأشياء التي تتغير كثيرا بتغير الزمان والمكان والحال مثل شكل الحكم، والإجراءات القضائية ونحوها، وينص في بعض الأحيان على الأشياء المهمة بطريقة كلية، ولا يدخل في التفاصيل، مثل: الشورى في الحياة الاجتماعية والسياسية، والعدل في الحكم، وإعداد المستطاع من القوة للأعداء، دون دخول في الكيفيات والتفصيلات.
على حين نجد القرآن يفصل الأحكام في بعض القضايا التي لا تتغير كثيرا بتغير المكان والزمان والعرف والحال، مثل قضايا الأسرة، من الزواج والطلاق والنفقة والميراث، ومثل بعض قضايا العقوبات على بعض الجرائم ذات الطبيعة الخاصة، وهي المعروفة باسم (الحدود) .
وكل هذه الأحكام ملزمة للمسلمين في كل زمان ومكان، لأنها تشريع الله لهم، وهو أعلم بهم، وأدرى بما يصلحهم وما يرقى بهم في دنياهم، ويسعدهم في أخراهم: (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ)(البقرة: 220) (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(الملك: 14)
وكل من آمن بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا: يلزمه أن يذعن – بمقتضى إيمانه – إلى ما حكم به الله ورسوله، وإلا كان عليه أن يراجع إيمانه من جديد، يقول عز وجل: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (النور: 51)
صحيح أن هذه الأحكام الشرعية العملية التي جاء بها القرآن ليست كثيرة جدا، ولكنها في غاية الأهمية، لأنها هي التي تميز أمة عن أمة، وحضارة عن حضارة.
ففرضية الصلاة والزكاة والصيام والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله، وأداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بما أنزل الله، وتحريم الربا والزنى، والشذوذ الجنسي، وتحريم التبرج، وتحريم السحر والكهانة، وقتل النفس بغير حق، والانتحار، وشرب الخمر، ولعب الميسر، وأكل المال بالباطل،وبخس الناس أشياءهم، والإفساد في الأرض، وعقوبة القاتل والسارق والقاذف ومن يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فسادا... كل ذلك مما يميز المجتمع المسلم، ويجعل له شخصيته المتميزة بمقوماتها وخصائصها.
ولهذا كان تحكيم هذه الشريعة وتطبيقها فريضة من الله، لا يجوز التفريط فيها من راع ولا رعية، سواء منها ما يتعلق بأحوال الأسرة، أم بشئون المجتمع، أم بأمور الدولة. فمن لم يحكم بحكم الله وقع في حكم الجاهلية لا محالة: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(المائدة: 50)
ومن مزايا هذه الشريعة القرآنية: أنها شريعة سهلة ميسرة. وقد وضعت فيها عن الأمة الآصار والأغلال التي كانت على من قبلها. ولهذا وصف الرسول في كتب أهل الكتاب بأنه: (يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف: 157)
وقال تعالى في ختام آية الطهارة:(مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(المائدة: 6) ، وفي ختام آية الصوم: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(البقرة: 185) وفي أعقاب الحديث عن المحرمات في الزواج: (يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا) (النساء: 28) ، وبعد الأمر بالقصاص وتشريع العفو والترغيب فيه: (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ)(البقرة: 178)
ومن يسرها: أنها تراعي أحكام الضرورات، وتقدر لها قدرها، ولهذا قال تعالى بعد الأطعمة المحرمة: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)(البقرة: 173)
كما راعت ظروف المكره الذي فقد الاختيار: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ)(النحل: 106)
وشرعت الرخص والتخفيفات في الصيام: (فَمَن شهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَر )(البقرة: 185) ، وفي الصلاة: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ)(النساء: 101) ، وفي الجهاد:( لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ)(الفتح: 17)
وهي شريعة منطقية، لأن أحكامها معللة بعلل مفهومة، وليست تحكمية، وهي آيات لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون .ولِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون. َولِّقَوْمٍ يَعْلَمُون . َولأُولِي الألْبَاب
وهي قائمة على تحقيق (مصالح العباد في المعاش والمعاد) فإن شارعها غني عن العالمين، وإنما يشرع ما يشرع ليحقق الخير والمنفعة لعباده، علموا ذلك أو جهلوه، أحبوا ذلك أو كرهوه، فأوامر الله ونواهيه لا تخضع لعواطفهم، كما قال تعالى: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)(البقرة: 216)
وقد أثبتت الأيام والوقائع أن كل أحكام القرآن تحقق للناس الخير والمصلحة، وتدرأ عنهم الشر والمفسدة، كما ثبت في تشريع إباحة الطلاق، الذي شرعه الله عند تعذر الوفاق، وقد حرمته المسيحية، واضطر المسيحيون في الغرب، إلى الخروج عن دينهم وإباحته، ومثل تعدد الزوجات، الذي يحرمه الغرب قانونا، ويمارسونه عملا وتطبيقا، ولكنه تعدد الخليلات لا تعدد الحليلات، تعدد لا التزام ولا مس