التعامل مع القرآن - خصائص القرآن (تهيئة الأسباب لحفظ القرآن)
الوصف
خصائص القرآن
تهيئة الأسباب لحفظ القرآن
وقد هيأ الله الأسباب لحفظ هذا القرآن، وفاء بوعده عز وجل بحفظه، ليبقى إلهيا كما أنزل، ولا تتطرق إليه أهواء البشر، وأوهام البشر.
وكان من هذه الأسباب:
أمة متميزة بالحفظ:
1- نزوله في أمة متميزة بالحفظ، عرف ذلك في الشعر وغيره، فكيف بكتابها المقدس؟ ساعد على ذلك سهولة القرآن وعذوبته، والترغيب في حفظه، فحفظه من الأمة أعداد هائلة على مدار التاريخ، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أمتنا ليست مثل أهل الكتاب، الذين لا يحفظون كتبهم في قلوبهم، بل لو عدمت المصاحف كلها، كان القرآن محفوظا في قلوب الأمة.
كتابة القرآن بعد نزوله:
2- ومن هذه الأسباب: أن الرسول الكريم اتخذ له (كتابا) للوحي، فأمرهم بكتابة كل ما ينزل عليه من القرآن فور نزوله، وكانوا يكتبونه على ما تيسر من الجلود والعظام وجريد النخل والخشب، والأوراق وغيرها، ونهاهم الرسول في أول الأمر عن أن يكتبوا شيئا غير القرآن، قال: "ومن كتب شيئا غير القرآن فليمحه" وذلك لتوفير كل الأدوات لكتابة القرآن، وتوفير الهمم والجهود للحفاظ عليه قبل كل شيء، ولم يلحق الرسول بربه إلا بعد أن كان القرآن كله مكتوبا، وإن لم يكن بين دفتين، لأنه ما دام حيا، فهو يتوقع نزول الوحي.
جمع القرآن في عهد أبي بكر:
3- ومن ذلك: ما تم في عهد خلافة أبي بكر، باقتراح من عمر، بعد معركة اليمامة في حروب الردة المعروفة، واستشهاد كثير من قراء القرآن بها، والخشية أن يفقدوا القراء في مواطن الجهاد، فأشار عمر بجمع القرآن جمعا رسميا، تشرف عليه الخلافة، وترسم له منهجه، وتختار له من يحسن القيام به، وقد اختير له زيد بن ثابت أبرز كتاب الوحي، وأحد المتقنين لفن الكتابة، وكان المنهج يعتمد على مصدرين:
أولهما: ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.
والآخر: ما كان محفوظا في صدور الرجال، وكان زيد لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شاهدان.
قال السخاوي: المراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.
قال زيد: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال، ما كان بأثقل علي، مما كان أمروني به من جمع القرآن.
وقد تم هذا الجمع الدقيق الموثق على أكمل وجه، وأصبح هناك مصحف رسمي، ظل عند أبي بكر حتى توفي، ثم عند عمر حتى استشهد، ثم سلم إلى حفصة أم المؤمنين، وقال علي: أعظم الناس في المصاحف أجرا: أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أول من جمع كتاب الله.
كتابة المصحف الإمام في خلافة عثمان:
4- ولقد كمل ذلك: ما تم في عهد الخليفة الثالث عثمان، فقد جاء حذيفة بن اليمان، بعد فتح أرمينية وآذربيجان مع أهل العراق، فأفزعه اختلاف الناس في القراءة، فقال لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى!
وفي بعض الروايات: أن بعضهم قال لبعض: قراءتنا خير من قراءتكم! فقد كان أهل الشام يتبعون قراءة أبي بن كعب، وأهل العراق يتبعون قراءة ابن مسعود، وهناك من يتبع قراءة أبي موسى الأشعري.
ولقد استجاب الخليفة لإشارة حذيفة، وأرسل إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف التي عندك، ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت حفصة بها إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف.. فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
وكانت مزية الجمع العثماني هذا تتمثل في أمور:
الأول: أنه كتب بلغة قريش، لأنه إنما نزل بلسانهم.
والثاني: أنه جرد المصاحف من الشروح والتعليقات التي كان بعض الصحابة يضيفونها في مصاحفهم، من كل ما ليس قرآنا.
والثالث: كانت هذه المصاحف خالية من النقط والشكل، مما منح الفرصة لقراءة القرآن بأي من الحروف السبعة، التي أنزل عليها، وبذلك لم يسقط عثمان شيئا من قراءات القرآن، أو من أحرفه السبعة في إطار ما يحتمله المصحف المكتوب.
كان عمل عثمان بموافقة من الصحابة ورضا منهم، ولذلك قالوا له: نعم ما رأيت.
وقال علي بن أبي طالب: لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل ما فعل، وفي رواية: لو لم يصنعه عثمان لصنعته.
وقال: يأيها الناس اتقوا الله، وإياكم والغلو في عثمان، وقولكم: حراق المصاحف! فوالله ما حرقها إلا عن ملأ منا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
ولو كان هو أو غيره من الصحابة معارضين لصدعوا برأيهم، فما كانوا يخافون في الله لومة لائم، ولا سيما فيما يتعلق بكتاب الله.
وأرسل عثمان إلى كل مصر من الأمصار الكبرى بنسخة من هذا المصحف الإمام، قيل: إن عددها أربعة، وقيل: ستة، وقيل سبعة.
وذكر ابن فضل الله العمري في منتصف القرن الثامن الهجري (ت 749ه) في كتابه (مسالك الأبصار) وهو يصف مسجد دمشق، قال: "وإلى جانبه الأيسر: المصحف العثماني بخط أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه) .
ويرجح المتصلون بالتراث العربي: أن هذا المصحف هو الذي كان في دار الكتب بمدينة (ليننجراد) ثم انتقل منها إلى إنجلترا، ولا يزال بها إلى اليوم.
ويقول السفاقسي في كتابه (غيث النفع في القراءات السبع) : ورأيت فيه – يعني مصحف عثمان – أثر الدم، وهو بالمدرسة الفاضلية بالقاهرة.
وأذكر أني قرأت أن مصحفا آخر يوجد بمدينة (طشقند) عاصمة أوزبكستان، لا يزال بها إلى اليوم.
ولقد لقي عمل عثمان هذا القبول والرضا من أمة الإسلام في عصورها كافة، فقد حفظ الله الأمة أن تختلف في القرآن، وهو في الواقع عمل الأمة، فقد كان هذا من عثمان، بعد أن جمع المهاجرين والأنصار، وجلة أهل الإسلام، وشاورهم في ذلك، فاتفقوا على جمع القرآن بما صح وثبت من القراءات المشهورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وطرح ما سواها، واستصوبوا رأيه، وكان – كما قال القرطبي – رأيا سديدا موفقا.
وكانت الصحف التي عند حفصة هي التي جعلت إماما في هذا الجمع الأخير، كما قال الطبري، وصححه القرطبي.
ومصحف عثمان هو الذي اعتمدته الأمة إلى اليوم بكل طوائفها، وكل مذاهبها، وكل مدارسها، من كلامية وفقهية وفلسفية وصوفية وأثرية.
وقد يقال: إن الشيعة الإمامية ينازعون في ذلك، والحق أنه لا ينازع في ذلك إلا الغلاة، ولكن الذي نعلمه ونستيقنه: أن هذا المصحف المعروف عند أهل السنة هو نفسه المعروف عند الشيعة، هو الذي تطبعه مطابعهم في إيران والعراق ولبنان، وهو الذي يحفظه صبيانهم في المدارس، وتذيعه إذاعاتهم وتلفازاتهم، ويفسره مفسروهم، ويحتجون به في كتبهم على أصول العقائد، كما يستدلون به في فقههم على الأحكام، وما يحكيه بعض (الأخباريين) منهم عن وقوع نقص في المصحف، يرده (الأصوليون) من علمائهم، وقد نقل شيخنا د.محمد عبد الله دراز عن كتاب أبي جعفر: الأم قوله: "إن اعتقادنا في جملة القرآن الذي أوحى به الله تعالى إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم هو كل ما تحتويه دفتا المصحف المتداول بين الناس، وعدد السور المتعارف عليه هو 114 سورة، أما عندنا سورتا الضحى والشرح تكونان سورة واحدة، وكذلك سورتا الفيل وقريش، وأيضا سورتا الأنفال والتوبة. أما من ينسب إلينا الاعتقاد في أن القرآن أكثر من هذا، فهو كاذب".