نداءات الرحمن لأهل الإيمان _النداء السابع والثمانون ( التحذير من فتنة الأزواج والأولاد والأموال. النهي عن سوء الظن)
الوصف
النداء السابع والثمانون
التحذير من فتنة الأزواج والأولاد والأموال. النهي عن سوء الظن
قال تعالى :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَن يُّوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (التغابن: 14-16).
* موضوع الآيات:
التحذير من فتنة الأزواج والأولاد والأموال، والأمر بالتقوى والإنفاق.
* معاني الكلمات:
( إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ): يشغلونكم عن طاعة الله، والتخلف عن الخير، كالجهاد، أو ينازعونكم في أمر الدين أو الدنيا.
( فَاحْذَرُوهُمْ): أي أن تطيعوهم في التخلف عن فعل الخير: كترك الهجرة أو الجهاد أو صلاة الجماعة أو التصدق على ذوي الحاجة.
( وَإِن تَعْفُوا): عنهم في التثبيط عن الخير وعن ذنوبهم بترك المعاقبة.
( وَتَصْفَحُوا): بالإعراض عن اللوم وترك العاقبة.
( وَتَغْفِرُوا): بالتجاوز عما فعلوا بالتأخير عن الهجرة أو الجهاد أو الإنفاق في سبيل الله.
( فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ): يعاملكم بمثل ما عملتم، فيغفر لمن يغفر، ويرحم من يرحم.
( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ): اختبار لكم فاحذروا أن يصرفوكم عن طاعة الله، أو يوقعوكم في معصية الله.
( وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ): لمن آثر مبة الله وطاعته على محبة الأموال والأولاد والسعي لهم.
( فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ): أي ابذلوا في تقواه جهدكم وطاقتكم، وذلك بفعل ما تقدرون عليه من أوامره، واجتنبوا نواهيه كلها.
( وَاسْمَعُوا): مواعظه.
(وَأَطِيعُوا): أوامره.
(وَأَنْفِقُوا): في وجوه الخير والطاعة لوجهه الكريم.
(خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ): أي افعلوا ما هو خير.
( وَمَن يُّوقَ): أي ومن يقه الله ويحفظه من شح نفسه فيعافيه من البخل والحرص على المال. "والشح" هو البخل مع الحرص.
( فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ): الفائزون.
* سبب النزول:
سبب نزول قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ) .. الآية.
أخرج الترمذي والحاكم وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية في قوم من أهل مكة أسلموا، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يَدَعُوهُم، فأتوا المدينة، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد فَقُهوا فَهَمُّوا أن يعاقبوهم، فأنزل الله (وَإِن تَعْفُوا) .. الآية.
وأخرج ابن جرير عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة التغابن كلها بمكة إلا هؤلاء الآيات: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ).. الآية نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، كان ذا أهل وولد، فكان إذا أراد الغزو بَكَوْا إليه ووقفوا، فقالوا: إلى من تدعنا، فيرق ويقيم، فنزلت هذه الآية وبقية الآيات إلى آخر السورة بالمدينة.
وفي رواية عن ابن عباس قال: كان الرجل يريد الهجرة فتحسبه امرأته، فيقول: أما والله لئن جمع الله بيني وبينكم في دار الهجرة لأفعلن ولأفعلن، فجمع الله بينهم في دار الهجرة، فأنزل الله هذه الآية.
* سبب نزول الآية:
(فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد ابن جبير قال: لما نزلت ( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) (آل عمران: 102)، اشتد على القوم العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم، وتقرحت جباههم، فأنزل الله تخفيفًا على المسلمين ( فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) .
* المناسبة بين آيات السورة:
بعد الأمر بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم حذر تعالى من الأزواج والأولاد الذين يثبطون عن الطاعة شأن أكثر ميل الناس عن الطاعات، ثم أبان أن الأموال والأولاد فتنة، فينبغي الحذر، ثم أمر الله سبحانه بالتقوى والإنفاق في سبيل الله، مبينًا سبحانه مضاعفة الثواب للمنفقين ومغفرته لهم.
* المعنى الإجمالي:
هذا النداء الإلهي يحمل تحذيرا عظيما من فتنة المال والولد، والزوجة أيضا، إنه من ولاية الله تعالى لعباده المؤمنين المتقين ناداهم بعنوان الإيمان: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لأنهم بإيمانهم أحياء يسمعون ويجيبون، ناداهم ليخبرهم محذرا منذرا فيقول: ( إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ) ومن فضل الله تعالى أنه قد توجد زوجة صديقة للزوج ويوجد ولد صديق للوالد دل على هذا قوله عز وجل: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ) لأن مِنْ للتبعيض مثل ( أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم) ،لا كل ما رزقناكم واعلم أن الفرق بين العدو والصديق أن العدو يحملك على ما يضرك ويخسرك، والصديق يحملك على ما ينفعك ويريحك، ولما كان الأمر خفيا ومختلطا قال تعالى: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) أي أن تطيعوهم في التأخير عن فعل الخيرات كترك الهجرة، أو الجهاد، أو صلاة الجماعة، أو التصدق بفضل المال على الفقراء والمحتاجين، وما إلى ذلك من الصالحات المزكية للنفس، ولتذكر هنا سبب نزول هذه الآيات لتزداد وضوحا في فهم هذا التحذير الإلهي العظيم، إنه روي أن أناسا كان لهم أزواج وأولاد عاقوهم عن الهجرة من مكة إلى المدينة فترة من الزمن، فلما تغلبوا عليهم هاجروا، ووجدوا الذين سبقوهم إلى الهجرة قد تعلموا وتفقهوا في الدين فتأسفوا عن تخلفهم. فهموا بأزواجهم وأولادهم وأولادهم الذين عاقوهم عن الهجرة فترة طويلة فهموا أن يعاقبوهم بنوع من العقاب كتجويعهم أو ضربهم، أو تثريب وعتاب شديدين، فأنزل الله تعالى هذه الآيات: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ) أي من بعضهم لا كلهم إذ منهم من يساعد على طاعة الله ورسوله ويكون عونا عليها. والمرأة في هذا كالرجل، فمن النساء الصالحات من يكون زوجها وولدها عدوا لها يحاولون صرفها عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو في النساء كثير، والواقع شاهد. كم من امرأة يأمرها زوجها بكشف وجهها، ويمنعها من التصدق بمالها، ويصرفها عن بر والديها إلى غير ذلك.
وقوله: (وَإِن تَعْفُوا) أي عن أزواجكم أو أولادكم الذين فتنوكم في دينكم فلا تؤاخذوهم بضرب أو أي عقاب، ( وَتَصْفَحُوا) فتعرضوا عنهم وتعطوهم صفحة وجوهكم فلا تسبوا ولا تشتموا ( وَتَغْفِرُوا) أي لهم ما حصل منهم من أذى وهم صرفوكم عن الهجرة زمنا فاتكم فيه خير كثير من العلم والفقه وصحبة الحبيب صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: ( فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) فاغفروا يغفر لكم وارحموا يرحمكم. ثم قال تعالى مخبرا عن حقيقة علمية ثابتة يجهلها العباد وهي أن المال والولد فتنة يمتحن الله تعالى بها عباده أي يبتليهم ويختبرهم، ليعلم الصادق في الطاعة من الكاذب والبار بحق من الفاجر، ومن يحب الله ورسوله أو يحب ماله وولده فقال تعالى: ( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَة) وقوله تعالى: ( وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي فآثروا ما عند الله تعالى على ما عندكم من مال وولد. وأحسنوا التصرف فيهم فلا تعصوا الله لأجلهم لا بترك واجب ولا بفعل محرم، واحذروا أن تسيئوا التصرف فيحملكم حبهم على التفريط في طاعة الله ورسوله. واعلموا أن ما عندكم ينفد وما عند الله باق فآثروا الباقي على الفاني.
وقوله تعالى: ( فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) هذا من إحسان الله تعالى إلى عباده المؤمنين إنه لما أخبرهم أن أموالهم وأولادهم فتنة وحذرهم أن يؤثروهم على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم علم تعالى أن بعض المؤمنين سيزهد في المال والولد، وأن بعضا سيعانون أتعابا ومشقة شديدة في التوفيق بين خدمة المصلحتين فأمرهم أن يتقوه في حدود ما يطيقون فقط، وخير الأمور الوسط فلا يفرط في ماله وولده، ولا يفرطفي علة وجوده وسبب نجاته وسعادته التي هي عبادة الله تعالى التي خلق من أجلها وعليها مدار نجاته من النار ودخوله الجنة دار الأبرار.
وقوله تعالى: (وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ) هذا أمره تعالى لعباده المؤمنين لما خفف عنهم أمر التقوى بقوله: (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أمر بالسمع والطاعة لله ورسوله والإنفاق في سبيله تعالى، وأعلمهم أن ذلك خير لهم، إذ بهذا تتم سعادتهم في الدارين.
وقوله تعالى لهم (وَمَن يُّوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) أي ومن يحفظه الله تعالى من شح النفس فقد أفلح بالفوز بالجنة والنجاة من النار، وفي هذا الخبر إشارة صريحة إلى أن وقاية النفس تطلب من الله تعالى ثم بالإنفاق في سبيل الله تعالى، فسؤال الله تعالى أن يقي العبد شح نفسه الذي فطرت عليه، ثم الإنفاق في سبيل الله بهما يحفظ العبد من شح النفس المهلك وبهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله "إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم" وكان عبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنه – إذ طاف بالبيت يدعو بقوله: اللهم قني شح نفسي لا يزيد على ذلك؛ لأن شح النفس هو الذي يحمل على السرقة والزنى والكذب والخيانة وخلف الوعد وإضاعة الأمانة.
من وحي الآيات: العلاقة الأسرية علاقة تكامل أم تنازع؟
التنازع بين الرجل وزوجته التي تثبطه عن عمل ما؛ لأنها تراه مضيعة للمال، فيما يراه هو قُرْبَة لله، موضوع مكرور، قديم، وحديث. فما من زوج إلا وقد يشكو من زوجته، والعكس بالعكس، والقرآن الكريم دقيق في تعبيره.
فـ (من) في قوله تعالى: (مِنْ أَزْوَاجِكُمْ) ترد هنا للتبعيض؛ أي بعض نسائكم.
وينبع النزاع من أن المرأة والرجل ليسا متشابهين لكنهما متكاملان، قال الله عز وجل: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم: 21) تسكن إليها، أي الرجل؛ إذ عنده نقص عاطفي انفعالي يكمله بامرأته، وعندها نقص قيادي فتكمله بزوجها، فهما متكاملان، وليسا متشابهين، قال الله عز وجل: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى) (آل عمران: 36).
فللمرأة خصائص فكرية ونفسية واجتماعية وجسمية، هي كمال مطلق للمهمة التي أنيطت بها. وللرجل خصائص فكرية ونفسية واجتماعية وجسمية، هي كمال مطلق للمهمة التي أنيطت به.
فهما متكاملان وليسا متشابهين؛ ولأنهما ليسا متشابهين لا بد من أن تنشأ من حين إلى آخر بينهما بعض المنازعات، أو الاعتراضات، أو اللوم، أو الجفاء، بسبب أن الزوج قانع بتصرفه مائة بالمائة، والزوجة ليست قانعة به.
ومن شأن المرأة أنها تغار، مهما عَلَتْ مكانتها أو عقليتها ققد جاءت السيدة صفية زوجة النبي صلى الله عليه وسلم مرة بطبق من الطعام النفيس، فلما رأته السيدة عائشة كسرته، فقال النبي الكريم: غضبت أمكم، غضبت أمكم.
فالغيرة مزية للمرأة، والرجل لا يحبها إذا لم تَغرْ عليه، ولكن ليست الغيرة الْمَرَضِيَّة التي تفوق الحد المعقول، بل الغيرة الطبيعية. فالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو سيد الخلق وحبيب الحق – حدثت مشكلات بينه وبين زوجاته بسبب غيرتهن.
وفي حال النزاع بينك وبين زوجتك إنْ كُنْتَ مُقْتَنِعًا بتصرفك بأنه يرضي الله عز وجل، بينما الزوجة لم ترض به، وغَضِبَتْ، وعَنَّفَت، وجَفَتْ، فينبغي أن تصبر، وأن تعفو، وتصفح، وأن تصمم على موقفك.
ولك في سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قدوة، إذ قالت له أُمُّه: إما أن تكفر بمحمد وإما أن أدع الطعام حتى أموت، فقال: يا أمي لو أن لك مئة نفس فخرجت واحدة واحدة ما كفرت بمحمد، فكلي إن شئت أو لا تأكلي.
أيها المسلم يجب أن تَبْنِي علاقتك مع زوجتك بحيث تنفذ أمرك من دون عنف، وابنك لا يحتمل إعراضك عنه، فمن أطاع عصاك فقد عصاك، فلا تقصر بواجبك تجاههما، فالزوج الواعي يعامل زوجته معاملة إلى حد أنها لا تحتمل أن يعرض عنها، ولا تحتمل أن تغيب، أو يغيب عن البيت، فلا تكن قاسيًا فتكسر ولا لينًا فتعصر.
ألحت زوجة صحابي عليه بمطالب كثيرة لا يحتملها، فلما ألحت عليه كثيرًا، قال لها: اعلمي أيتها المرأة أن في الجنة من الحور العين ما لو أطلت إحداهن على الأرض لغلب نور وجهها ضوء الشمس والقمر، فلأن أضحي بك من أجلهن أهون من أضحي بهن من أجلك.
فالعداوة بين الزوج وزجته ستكون يوم القيامة عداوة مآل إذا أطعتها في معصية الله، لأنها سَبَّبَتْ لك عقابًا وحسابًا عسيرًا يوم القيامة، وعليك أن تعي أن هذه المرأة ليست مثلك، فأنت قنعت بهذا الدين وقنعت بالآخرة، وأخذتها وهي غير قانعة، فاصبر عليها. وينبغي أن لا يحملنا حبنا لأولادنا على حملهم على معصية الله من أجل مستقبلهم وإلا كانوا فتنة.
ورد في بعض الأحاديث أن الولد مجبنة مبخلة. فالذي عنده أولاد يصبح إنفاقه ضعيفًا، ومواقفه تصبح لينة، ويجامل كثيرًا خوفًا على أولاده. فمن أجل أن يكون لك ابن متفوق ضحيت بدينه، فأرسلته إلى بلد من دون ضوابط، وأنت حينما تكسب المال الحرام من أجل أولادك، أو حينما تحمل أولادك على معصية الله من أجل مستقبلهم، سيكون هذا الابن فتنة لك، ولن تنجح.
وكل شيء يتوقف وصفه بأنه نعمة أو نقمة، على طريق استعماله. ومثال ذلك كسب المال وإنفاقه، وسماع المذياع قرآنًا أو أغاني.
وكل ما آتاك الله إياه أنت ممتحن به، وكل ما زواه عنك أنت ممتحن به، قال الله عز وجل: (فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) ) (الفجر: 15 – 16)، وجاء الردع الإلهي بكلّا، فليس عطائي إكرامًا ولا منعي حرمانًا، عطائي ابتلاء وحرماني دواء. والإنسان ممتحن بالمال، غنىً وفقرًا، وممتحن بالصحة والمرض، وممتحن بالفراغ وبالشغل، وممتحن بالوسامة وبالدمامة. دعا النبي الكريم ربه بقوله: (اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ، اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ) (رواه الترمذي).
ومن مصائب المؤمن الكبيرة التهاون في التربية الدينية، فالعربي في الجاهلية حينما كان يحفر في الرمل، ويضع ابنته ويهيله عليها، كان يرتكب جريمة. وهناك جريمة أبشع من تلك يرتكبها بعض الآباء، قال تعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) (البقرة: 191)، ومن ذلك إذا أنجب إنسان بنتًا، وتركها تفتن الشباب، وترتدي أحدث الأزياء الفاضحة، ومفاتن جسمها ظاهرة، فهذا الذي يطلق لابنته العنان ولا يعبأ بطريقة لباسها، بل يعجب بها ويتباهى بجمالها، فهذا الأب قد فتنها عن دينها. ولو وازَنَّا بين البنتين لوجدنا التي دفنت في الرمل مصيرها إلى الجنة، لأنها كما قال الله عز وجل: ( وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9) ) (التكوير: 8 – 9)، بينما البنت التي كبرت، وأطلقها أبوها على سجيتها من دون ضابط، ولا رادع، ولا مبادئ، ولا قيم، فسدت بسبب الأب؛ لذلك ورد في بعض الآثار: البنت يوم القيامة تقف أمام رب العزة، تقول: يا رب، لا أدخل النار حتى أدخل أبي قبلي، لأنه سبب شقائي في الدنيا.
وعلى الإنسان أن يبذل كل جهده في طاعة الله عز وجل، فهو ممتحن بالزوجة، وممتحن بالولد، وممتحن بالمال؛ إذ قد يصيب النفس مرض خبيث اسمه الشح، وقد حذرنا الله سبحانه وتعالى منه.
* ما يستفاد من الآيات:
1- بيان أن من بعض الزوجات والأولاد عدوًا، فعلى المؤمن أن يحذر ذلك ليسلم من شرهم، لأنهم ربما حملوهم على كسب الحرام، ومنع حق الله وارتكاب المعاصي والآثام، والله عنده الثواب الجزيل لمن آثر طاعة الله وترك معصيته في محبة ماله وولده.
2- الترغيب في العفو والصفح والمغفرة على من أساء أو ظلم.
3- التحذير من فتنة المال والولد، ووجوب التيقظ حتى لا يهلك المرء بولده وماله –أخرج أحمد والترمذي والحاكم والطبراني عن كعب ابن عياض قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن لكل أمة فتنة وإن فتنة أمتى المال"
وأخرج أحمد وأبو بكر البرازي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الولد ثمرة القلوب، وأنهم مجبنة، مبخلة، محزنة".
4- وجوب تقوى الله بفعل الواجبات وترك المهنيات في حدود الطاقة البشرية.
5- الترغيب في الإنفاق في سبيل الله تعالى والتحذير من الشح، فإنه داء خطير، قال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم" وكان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إذا طاف بالبيت يدعو فيقول "اللهم قني شح نفسي "لا يزيد على ذلك؛ لأن شح النفس هو الذي يحمل على السرقة والزنى والكذب والخيانة وخلف الوعد وإضاعة الأمانة.
وفي الإنفاق يقول ابن القيم رحمه الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثير الإنفاق، وكان ذلك سببًا في انشراح صدره صلى الله عليه وسلم وطمأنينته فكان يفرح بالبذل أكثر من فرح الآخذ بالأخذ.