نداءات الرحمن لأهل الإيمان _النداء السادس والثمانون ( تحذير المؤمنين من أخلاق المنافقين )
الوصف
النداء السادس والثمانون
تحذير المؤمنين من أخلاق المنافقين
قال تعالى :﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَن يَّفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المنافقون: 9-11)...
* موضوع الآيات:-
تحذير المؤمنين من أخلاق المنافقين، وأمرهم بالإنفاق في سبيل الخير، قبل أن يفاجئهم الموت.
* معاني الكلمات:
(لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ): أي لا تشغلكم عن الصلاة وسائر العبادات المذكرة بالمعبود.
(عَنْ ذِكْرِ اللهِ): كالصلاة والحج وقراءة القرآن والتسبيح والتهليل وغيره من العبادات، وذكر الله يكون بالقلب واللسان.
(وَمَن يَّفْعَلْ ذَلِكَ): وهو اللهو والانشغال بالأموال والأولاد عن أداء الفرائض، فَتَرَكَ الصلاة والحج وغيرهما من الفرائض.
(فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ): في تجارتهم، لأنهم باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني.
(وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم): أي أنفقوا بعض أموالكم لا دخار ثوابها للآخرة، سواء النفقة الواجبة كالزكاة أو المستحبة.
(لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي): أي هلا أخرتني، يطلب التأخير ولا يقبل منه.
(إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ): أي أمد غير بعيد.
(فَأَصَّدَّقَ): أي فأتصدق بالزكاة وغيرها.
(وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ): بتدارك الأعمال الصالحة: كالحج وغيره من نوافل العبادات.
(وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ): لن يمهلها.
(إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا): آخر عمرها.
(وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ): أي مطلع على أعمالكم، فمجازيكم عليها، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
* المناسبة:
بعد بيان خصال المنافقين وذمهم وتوبيخهم عليها حذر الله المؤمنين من أخلاق المنافقين والتشبه بهم في الاغترار بالأموال والأولاد والانشغال عن طاعة الله، ثم أمرهم أن ينفقوا بعض أموالهم في مجالات الخير، ولا يؤخروا ذلك حتى يداهمهم الموت، فيندموا ويطلبوا إطالة العمر، حتى حتى يتداركوا ما فاتهم من خير، وأنى لهم ذلك.
* المعنى الإجمالي:
اعلم أيها القارئ الكريم أن هذا النداء الإلهي له خطورته وشأنه العظيم فقد نادى الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين لكمال حياتهم بإيمانهم ناداهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا، ناداهم ليقول لهم ناهيا لهم: (لاَ تُلْهِكُمْ) أي لا تشغلكم أموالكم كثرت أو قلت وأي نوع كان المال سواء كان مال تجارة أو صناعة أو زراعة أو غير ذلك، لا تشغلكم عن عبادة الله تعالى، وسواء كانت العبادة صلاة أو حجا أو جهادا، ولا يلهكم أولادكم أيضا عن عبادة الله تعالى لا عن صلاة ولا حج ولا جهاد ولا عن ذكر الله تعالى، وكل عبادة هي ذكر لله (عز وجل)، إذ لا تخلو عبادة من ذكر الله حتى الصيام فإنه ذكر لله تعالى بالقلب، إذ لولا ذكر الله لأكل الصائم أو شرب.
وقوله تعالى: (وَمَن يَّفْعَلْ ذَلِكَ) أي بأن أَلْهَتْهُ أمواله أو أولاده أو هما معا عن عبادة الله تعالى التي تعبد بها عباده من أداء الفرائض والواجبات على اختلافها، فأولئك البعداء هم الخاسرون يوم القيامة بحرمانهم من الجنة ونعيمها، ووجودهم في دار العذاب حيث لا أهل ولا مال ولا ولد. كما قال تعالى: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) وقوله تعالى لهم: (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم) أي من مال وعلم وكل خير رزقه العبد من الجاه فإنه ينفق منه في قضاء حاجات من يعجز عن قضائها إلا بالواسطة وإن كان المطلوب الأول في هذا الأمر أداء الزكاة والصدقات الواجبة كالجهاد والإنفاق المتعين كالإنفاق على الأبوين والزوجة والولد وقرى الضيف وما إلى ذلك. والحمد لله إنه تعالى لم يقل: وأنفقوا ما رزقناكم بل قال: (مما) أي من بعض ما رزقناكم، فالزكاة نصابها اثنان ونصف في المائة، وفي الحبوب في عشرة أوسق –أي قناطير-قنطار، إن كانت تسقى بماء العيون والمطر. أما إن كانت تسقى بالسني والدلو، والمكائن فنصف العشر ففي عشرة قناطير نصف قنطار لا غير، وفي هذا الأمر الإلهي دليل على وجوب تعجيل إخراج الزكاة إذا وجبت وحال حولها، وكذلك سائر العبادات إذ دخل وقتها.
وقد جاء في الحديث: "اطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام" وجاء أيضًا: "يا ابن آدم ليس لك من مالك إلا ما لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت، أو تصدقت فأبقيت"
وقوله تعالى: (مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي من قبل أن ينتهي أجله ويأتي ملك الموت لقبض روحه وفي هذا دليلقاطع على وجوب أداء الواجبات في أوقاتها وسواء كانت زكاة أو صلاة أو حجا أو غيرها كقضاء الديون من قدر على سدادها، وذلك لعدم العلم بساعة الوفاة، والموت قد يأتي بغتة. فكم من نائم مات في نومه، وكم من مسافر مات في سفره، وكم من راكب مات في ركوبه، وكم من صحيح مرض ومات في مرضه، وقوله تعالى: (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي يقول المحتضر الذي حضره الموت متمنيا على الله أن يؤخره إلى وقت يمكنه فيه أن يصدق ويؤدي الحقوق.
وقوله: (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ) هذا مفاد تمنيه وهو أن يتصدق بماله، ويكون من الصالحين بأن يحج ويعتمر، ويصل الرحم ويرحم الفقراء، ويساهم في مشاريع الخير كبناء المساجد ودور اليتامى والإنفاق على الجهاد وما إلى ذلك. إلا أن هذا التمني وهذا الطلب لا يجديه شيئا أبدا؛ لأن حضور ملك الموت لقبض الروح لا يرده أحد إلا الله، والله قد قضى وحكم فلم يبق مجال للطلب والتمني. وإنما هذا من تمني الحسرة والندامة، وهما لا ينفعان بل يزيدان في الكرب والحزن، وكيف والله يقول: (وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) فإذا كان تعالى القوي القدير لا يؤخرها، فهل يؤخرها غيره من المخلوقين المربوبين العجزة الهالكين.
أخرج الترمذي وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له مال يبلغه حج بيت الله أو تجب عليه في الزكاة فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت" فقال رجل: يا ابن عباس اتق الله، فإنما يسأل الرجعة الكافر!! فقال سأتلو عليكم بذلك قرآنًا: ( وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ) ... الآية.
وقوله تعالى: ( وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) يحض به تعالى المؤمنين على إصلاح أعمالهم والتزود لآخرتهم بإعلامهم – سبحانه وتعالى – بأنه مطلع على أعمالهم خبير بها، وسواء ما كان منها صالحا أو فاسدا. ألا فليراقب العبد ربه فيصحح معتقده، ويحسن عمله. ويلازم ذكر ربه بقلبه ولسانه.
* ما يستفاد من الآيات:
1- وجوب الاشتغال بطاعة الله تعالى كقراءة القرآن وإدامة الذكر وأداء الصلوات الخمس وإيتاء الزكاة، والحج والقيام بالفرائض.
2- حرمة التشاغل بالمال والولد مع تضييع بعض الفرائض والواجبات.
3- حرمة تأخير الحج مع القدرة على أدائه، تسويفًا وتماطلًا مع الإيمان بفرضيته.
4- وجوب الزكاة والترغيب في الصدقات على الفقراء والمساكين والجهاد وغيره من الأعمال الخيرية.
5- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
6- حض المؤمنين على إصلاح أعمالهم والتزود لآخرتهم، بإعلامهم أنه سبحانه مطلع على أعمالهم، ومجازيهم إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
7- كل مفرط يندم عند الاحتضار، ويسأل طول المدة ولو شيئًا يسيرًا ليستدرك ما فاته، ولكن هيهات، وقد جعل الله سبحانه لكل إنسان أجلًا محتومًا.
8- تمييز ديننا الإسلامي بالوسطية في كل شيء، فأعطى للدنيا حقها وللآخرة حقها، فلله الحمد لم يجعلنا كاليهود الماديين والمتهالكين في الدنيا وجميع المال، ولا رهبانيين كالنصارى الذين يجردون أنفسهم من لذات الحياة.
كما قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (القصص: 77).
وفي الأثر: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا".