نداءات الرحمن لأهل الإيمان _النداء الخامس والسبعون ( آداب المناجاة )

نداءات الرحمن لأهل الإيمان _النداء الخامس والسبعون (  آداب المناجاة  )
453 0

الوصف

النداء الخامس والسبعون 

 آداب المناجاة  

قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾  (المجادلة: 9-10). 

  * موضوع الآيات: 

آداب المناجاة في القرآن. وحرمة التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول. والأمر بالتناجي بالبر والتقوى. 

*  معاني الكلمات:

 (تَنَاجَيْتُمْ): المناجاة: المسارة الكلامية، وهي عادة اليهود والمنافقين، لإيذاء المؤمنين. 

 (بِالإِثْمِ): هو ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه غيرك، أي بما هو معصية وذنب. 

 (وَالْعُدْوَانِ): الاعتداء على غيرهم كمعصية الرسول ومخالفته، وبما هو تعد على المؤمنين. 

 (وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى): أي بالخير والتقوى، وهي طاعة الله ورسوله. 

 (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ): أي التناجي والمسارة بالكلام بالإثم والعدوان من وسوسة الشيطان وتزيينه. 

 (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا): ليوقعهم بتوهمه في الحزن. 

 (وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ): أي وليس الشيطان بضار المؤمنين شيئًا إلا بمشيئة الله وإرادته. 

 (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ): أي على الله لا غيره يجب أن يفوض المؤمنون أمرهم إليه سبحانه، فإن الله سبحانه كاف من توكل عليه. 

  * المناسبة:

بعد بيان علم الله تعالى بكل شيء، ومنه السر والنجوى، أبان الله تعالى حال أولئك الذين نهوا عن النجوى، وهم اليهود والمنافقون، ثم عودتهم إلى المنهي عنه وتحيتهم بالسوء للنبي صلى الله عليه وسلم، قائلين له: السام عليك أي الموت. وتهديد بدخول جهنم. ثم ذكر تعالى آداب المناجاة من الامتناع عن التناجي بالإثم والعدوان، أي بالمعصية والقبيح والاعتداء وكل ما يؤدي إلى ظلم الغير، وضرورة التناجي بالبر والتقوى, أي بالخير، وما يتقي به النار من فعل الطاعات وترك المعاصي. 

*  المعنى الإجمالي:

نادى الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين بقوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لأن المؤمن بحق حي يسمع النداء ويعي ما يقال له، وذلك لكمال حياته، ناداهم ليربيهم رُوحِيًّا، ويهذبهم أخلاقيًّا، وكيف لا، وهو مولاهم ووليهم، وهم عبيده وأولياؤه، فقال لهم: (إِذَا تَنَاجَيْتُمْ) لأمر استدعى ذلكم منكم، (فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ) حتى لا تكون حالكم كحال اليهود والمنافقين الذين يتناجون بالإثم أي بما هو إثم في نفسه، كما يتناجون بما هو عدوان على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، ومعصية لله والرسول، إذ كانوا يتواصون فيما بينهم بعدم طاعة الله والرسول، لذا نهى تعالى أولياءه المؤمنين أن يتناجوا (بِالإِثْمِ) وهو الغيبة وبذاء القول وسيئه، (وَالْعُدْوَانِ) وهو الظلم، (وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ) أي بعدم طاعته في بعض ما يأمر به أو ينهى عنه. فقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ) أي إذا استدعى الأمر مناجاة بعضكم لبعض فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول كما هي حال أعدائكم من اليهود والمنافقين، إذ نزل فيهم قرآن وهو قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى) وهي المسارة الكلامية، (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ ... ) الآيات ثم بعد أن نهى الله تعالى المؤمنين عن المناجاة المشابهة لمناجاة اليهود والمنافقين. أذن لهم في التناجي بما هو خير وطاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: (وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ) الذي هو الخير بمعناه العام حيث لا إثم فيه ولا شر والتقوى التي هي طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في أمرهما ونهيهما. ثم أمرهم (عز وجل) بتقواه فقال: (وَاتَّقُوا اللهَ) مشيرا إلى موجبها وهو كونهم يحشرون إليه يوم القيامة فيحاسبهم ويجزيهم بأعمالهم، لذا هم في حاجة إلى تقواه (عز وجل) بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم لينجوا ويفوزوا يوم القيامة، ينجوا من النار ويفوزوا بدخول الجنة. 

ولنستمع إلى حديث أحمد – رحمه الله – عن ابن عمر – رضي الله عنهما – فإنه يقرر ما تقدم ويوضحه أيما توضيح. قال: حدثنا بهز وعفان قالا: أخبرنا همام عن قتادة عن صفوان بن محرز قال: كنت آخذا بيد ابن عمر، إذ عرض له رجل فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه، ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين". 

وقوله تعالى في هذا النداء: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ) أي هو الدافع إليها والحامل عليها من أجل أن يوقع المؤمنين في الغم والحزن، ومن هنا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التناجي فقال: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن لا يحزنه ذلك". وقال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر في الصحيح: "إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الواحد"، وعلى هذا أكثر أهل السلف وعلماء الخلف، فلا يجوز أن يتناجى اثنان دون الثالث، ولا ثلاثة دون الرابع، ولا خمسة دون السادس، لما يوجده ذلك من غم وحزن وخوف للمؤمن الذين تناجى إخوانه دونه وهم في مجلس واحد، وليس هذا خاصا بحالة حرب أو خوف، بل هو عام في سائر الظروف والأحوال، وفي القرآن الكريم يقول تعالى: (لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ) حينئذ تجوز المناجاة لأنها في الصالح العام. 

وقوله تعالى في نهاية النداء: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ) أي هو الحامل عليها لإيجاد أذى بين المؤمنين (وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي فلا ينبغي للمؤمن أن يغتم أو يحزن من المناجاة إذا حصلت من يهودي، أو منافق، فضلا عن أن تكون من مؤمن. وليتوكل على الله ويفوض أمره إليه، فإنه وليه وحافظه من كل ما يؤذيه أو يسيء إليه. 

  في المناجاة:

عن ابن عباس: نزلت في اليهود والمنافقين، كانوا يتناجون فيما بينهم، وينظرون للمؤمنين، ويتغامزون بأعينهم، فيقول المؤمنون: لعلهم بلغهم عن إخواننا وقرابتنا من المهاجرين والأنصار قتل أو مصيبة أو هزيمة، ويسؤهم ذلك. فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم أي اليهود والمنافقون عن النجوى فلم ينتهوا، فنزلت الآية: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى) (المجادلة: 8). 

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: حديثنا بهز وعثمان قالا: أخبرنا همام عن قتادة عن صفوان بن محرز قال آخذا بيد ابن عمر إذ عرض له رجل فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النجوى يوم القيامة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يدني المؤمن فيضع كنفه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه، ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين".   

  *  ما يستفاد من الآيات:

1- بيان مكر اليهود والمنافقين وكيدهم للمؤمنين في كل زمان ومكان. 

2- حرمة التناجي بغير البر والتقوى، لقوله تعالى: (لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ) (النساء: 114). 

3- لا يجوز أن يتناجى اثنان دون الثالث، لما يوقع ذلك في نفس الثالث من حزن، لا سيما إن كان ذلك في سفر أو حرب أو نحو ذلك. 

4- وجوب التوكل على الله وتفويض الأمور إليه سبحانه، وترك الأوهام والوساوس، فإنها من الشيطان. 

5- قال القرطبي رحمه الله: نبه تعالى المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم كفعل المنافقين واليهود، وأمرهم أن يتناجوا بالطاعة والتقوى والعفاف عما نهى الله عنه. 

6- من أدب الإسلام كما جاء في حديث ابن مسعود: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجَ رجلان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس، فإن ذلك يحزنه". ألا يتناجى أو يتحدث سِرًّا اثنان أمام الثالث، حتى يجد الثالث من يتحدث معه، كما فعل ابن عمر رضي عنهما، وذلك أنه كان يتحدث مع رجل فجاء آخر يريد أن يناجيه، فلم يناجه حتى دعا رابعًا، فقال له وللأول: تأخرا. وناجى الرجل الطالب للمناجاة. أخرجه الموطأ.