نداءات الرحمن لأهل الإيمان _النداء الستون_ (غزوة الخندق ووجوب ذكر النعم وشكرها )

نداءات الرحمن  لأهل الإيمان  _النداء الستون_ (غزوة الخندق ووجوب ذكر النعم وشكرها )
484 0

الوصف

 النداء الستون

  غزوة الخندق ووجوب ذكر النعم وشكرها  

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ (الأحزاب: 9-11). 

  * موضوع الآيات: 

غزوة الأحزاب – الخندق، ووجوب ذكر النعم وشكرها، وبيان موجوب الذكر والشكر لله تعالى. 

*  معاني الكلمات:

 (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ): أي اذكروا نعمة الله في دفاعه عنكم لتشكروا ذلك. 

 (جُنُودٌ): أي جنود المشركين المتحزبين. 

 (رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا): هي جنود الملائكة، والريح ريح الصبا، وهي التي تهب من الشرق. 

 (تَعْمَلُونَ بَصِيرًا): أي بصيرًا بأعمالكم من حفر الخندق والاستعدادات للمعركة. 

 (إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ): أي بنو أسد وغطفان، أتوا من قبل نجد من شرق المدينة. 

 (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ): أي من غرب، وهم قريش وكنانة. 

 (وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ): أي مالت عن كل شيء، إلا عن العدو تنظر إليه من شدة الفزع. 

 (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ): أي منتهى الحلقوم من شدة الخوف. 

 (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا): أي المختلفة من نصر وهزيمة ونجاة وهلاك. 

 (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ): أي من الخندق ساحة المعركة اختبر المؤمنون. 

 (وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا): أي حركوا حراكًا قويًا من شدة الفزع. 

*    مناسبة الآيات لما قبلها:

بعد أن أمر سبحانه عباده بتقواه وعدم الخوف من سواه – ذكر من هنا تحقيق ذلك، فأبان سبحانه أنه أنعم على عباده المؤمنين، إذ صرف عنهم أعداءهم وهزمهم حين تألبوا عليهم عام الخندق. 

*  المعنى الإجمالي:

يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ) ... الآية هذه قصة غزوة الخندق أو الأحزاب، قصها تبارك وتعالى على المؤمنين في معرض التذكير بنعمة الله تعالى عليهم، ليشكروه بالانقياد والطاعة لله ورسوله, وقبول كل ما يشرع لهم لإكمالهم وإسعادهم في الحياتين الدنيا والأخرى. فقال تعالى يا من آمنتم بالله ربًّا وإلهًا ومعبودًا، وبمحمد نبيًا ورسولًا، وبالإسلام دينًا وشرعًا، اذكروا نعمة الله عليكم المتمثلة في دفع أكبر خطر قد حاق، بكم وهو اجتماع جيوش عدة على غزوهم في عقر دارهم، وهم جيوش قريش وأسد وغطفان وبنو قريظة من اليهود ألبهم عليهم وحزب أحزابهم حيي بن أخطب النضري يريد الانتقام من الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، إذا أجلوهم من المدينة، وأخرجوهم منها، فالتحقوا بيهود خيبر وتيماء، ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم أمر بحفر الخندق تحت جبل سلع غربي المدينة، وذلك بإشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه، إذ كانت له خبرة حربية علمها من ديار قومه فارس. 

وتم حفر الخندق في خلال شهر من الزمن، وكان صلى الله عليه وسلم يعطي لكل عشرة أنفار أربعين ذراعًا أي عشرين مترًا، وما أن فرغوا من حفره حتى نزلت جيوش المشركين، وكانوا قرابة اثنى عشر ألفا، ولما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وراء الخندق تحت جبل سلع قالوا: هذه مكيدة، لم تكن العرب تعرفها. فتناوشوا بالنبال, ورمى عمرو بن عبد ود القرشي بفرسه فيالخندق، فقتله علي رضي الله عنه ودام الحصار والمناوشة وكانت الأيام والليالي بادرة والمجاعة ضاربة أطنابها قرابة الشهر، وتفصيل الأحداث للقصة فيما ذكره سبحانه بقوله: (إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ) هي جنود المشركين من قريش ومن بني أسد وغطفان، فأرسلنا عليهم ريحا وجنودًا لم تروها لما جاءتكم جنود المشركين، وحاصروكم في سفح جبل سلع أرسلنا عليهم ريحًا، وهي ريح الصبا المباركة، التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور" وهي الريح الغربية، وفعلت الأفاعيل حيث لم تبق لهم نارا إلا أطفأتها، ولا قدرًا على الأثافي إلا أراقته، ولا خيمة ولا فسطاطا إلا أسقطته وأزالته، حتى اضطروا إلى الرحيل. وقوله: (وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا) وهم الملائكة فأصابتهم بالفزع والرعب، الأمر الذي أفقدهم كل رشدهم وصوابهم، ورجعوا يجرون أذيال الخيبة والحمد لله. وقوله تعالى: (وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) أي بكل أعمالكم من حفر الخندق والمشادات والمناورات وما قاله وعمله المنافقون لم يغب عليه تعالى شيء، وسيجزيكم به المحسن بالإحسان والمسيء بالإساءة، وقوله تعالى: (إِذْ جَاءُوكُم) المشركون (مِّن فَوْقِكُمْ) أي من الشرق وهم غطفان بقيادة عيينة بن حصن وأسد (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) وهم قريش وكنانة أي من الجنوب الغربي، وهذا تحديد لساحة المعركة وقوله (وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ) أي مالت عن كل شيء، فلم تبق تنظر إلا إلى القوات الغازية من شدة الخوف (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ) أي ارتفعت بارتفاع الرئتين، فبلغت منتهى الحلقوم، وقوله (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) المختلفة من نصر وهزيمة وسلامة وعطب، وهذا تصوير للحال أبدع تصوير, وهو كما ذكر تعالى حرفيا. 

وقوله تعالى: (هُنَالِكَ) أي في ذلك المكان والزمان الذي حدق العدو بكم (ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) أي اختبرهم ربهم ليرى الثابت على إيمانه الذي لا تزعزعه الشدائد والفتن من السريع الانهزام والتحول لضعف عقيدته وقلة عزمه وصبر. وقوله تعالى (وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) أي أزعجوا وحركوا حراكًا شديدًا، لعوامل قوة العدو وكثرة جنوده وضعف المؤمنين وقلة عددهم وعامل المجاعة والبرد الشديد، وما أظهره المنافقون من تخاذل، وما كشفت عنه الحال من نقض بني قريظة عهدهم وانضمامهم إلى الأحزاب. 

هذا ولنعلم أن التذكير بالنعم وبما يجب من شكر للمنعم على إنعامه مما ينبغي أن لا ينساه المؤمن، إذ الذي لا يذكر النعمة لا يشكرها. ولنعلم أن نعم الله تعالى على عباده لا تحصى، إذ كل ما أوتيه العبد من صحة بدن، وسلامة عقل، وسلامة معتقد، وصحة الدين، وأن كل هذه النعم تتطلب الشكر من العبد، ومما يساعد على الشكر: ذكر النعمة، ومعرفة المنعم، والشكر يكون بطاعة المنعم وبالقرب إليه بمحابه. مع تعظيمه وإجلاله وإكباره. ومن باب شكر الله على نعمه: أن يذكر العبد الله تعالى بقلبه ولسانه، ويصرف النعم فيما من أجله وهبها الله تعالى للعبد، ومن شكر النعم زاده الله منها أفضل وأكثر، لقوله عز وجل: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)  

ولنعلم أيضا أنه بالمتأمل في حال المسلمين قديمًا وحديثًا وجدنا أنه كلما تمسكوا بهذا الدين وتعلقوا بربهم، فالله ناصرهم ومعينهم، ذلك واضح بحمد الله، وصدق الله (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ) (غافر: 51).

 (وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ) (الحج: 40)، ( وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم: 47). 

إن هذا النداء الإلهي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) وإن كان موجها لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليذكرهم بنعمة عظمى: أن الله تعالى دافع عنهم. إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فهو عام لكل مؤمن أن يشكر الله دائما، وذلك بتذكر النعم ثم شكرها- ومن نعم الله سبحانه أنه لم لم ينصر المؤمنين لم يصلنا إسلام ولا إيمان، ولا عرفنا ربنا ولا ذكرناه، فله الحمد والشكر والمنة. 

  *  ما يستفاد من الآيات:

1- مشروعية التذكير بالنعم ليشكرها المذكرون بها، فتزداد طاعتهم لله ورسوله.  

2- عرض غزوة الأحزاب أو الخندق عرضا صادقًا واضحًا لا أفضل منه في عرض الأحداث المعبرة. 

3- بيان أن غزوة الأحزاب كانت من أشد الغزوات، وأكثرها ألمًا وتعبًا على المسلمين. 

4- بيان أن حسن الظن بالله ممدوح، وأن سوء الظن بالله تعالى كفر ونفاق، وقد ظهر ذلك ولله الحمد من إيمان المؤمنين وشدة يقينهم ما فاقوا به الأولين والآخرين، وعندما اشتد الكرب وتفاقمت الشدائد صار إيمانهم عين اليقين، وفي ذلك سبحانه: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ) (الأحزاب: 12) إلى قوله (غُرُورًا) (الأحزاب: 12).