نداءات الرحمن لأهل الإيمان _النداء السادس والخمسون_ ( الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والجهاد)
الوصف
النداء السادس والخمسون
الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والجهاد
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ (الحج: 77-78)
* موضوع الآيات:
أوامر التشريع والأحكام في الأمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والجهاد ولزوم الإسلام والاعتصام به.
* معاني الكلمات:
)ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا(: أي صلوا.
)وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ(: وَحِّدُوه وتَعَبَّدُوهُ بِسَائِرِ ما تعبدكم به، فأطيعوه في أمره ونهيه.
)وَافْعَلُوا الْخَيْرَ(: افعلوا ما هو خير وأصلح فيما تأتون وتذرون: كنوافل الطاعات، وصلة الأرحام، ومكارم الأخلاق، وغير ذلك من صالح الأقوال والأعمال.
)لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(: أي في سبيله ومن أجله – أعداء دينه.
)وَجَاهِدُوا فِي اللهِ(: أي في سبيله ومن أجله – أعداء دينه.
)حَقَّ جِهَادِهِ(: أي جهادًا حقًا خالصًا لوجهه، كما شرعه سبحانه وأمر به، وهو جهاد الكفار والشيطان والنفس والهوى، والجهاد استفراغ الوسع في مجاهدة العدو.
(اجْتَبَاكُمْ): اختاركم لحمل دعوة الله إلى الناس كافة.
(حَرَجٍ): ضيق وعسر ومشقة بتكليفكم ما يشق عليكم أن سهله عند الضرورات: كقصر الصلاة الرباعية والتيمم وأكل الميتة والفطر للمريض والمسافر، ومنه إشارة إلى أنه لا عذر لأحد في ترك التكليف، فهو إما عزيمة أو رخصة، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجه عن أبي هريرة: "إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم".
(مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ): أي الزموا ملة أبيكم إبراهيم أي شريعته، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وإنما جعل أبا للمسلمين لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(مِن قَبْلُ): أي من قبل القرآن في الكتب المتقدمة.
(وَفِي هَذَا): أي القرآن.
(لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ): يوم القيامة بأنه بَلَّغَكُم.
(وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ): بتبليغ الرسل إليهم – أي تكونوا شهداء على الناس أن رسلهم بلغوهم.
(فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ): أي فتقربوا إلى الله بأنواع الطاعات لما خصكم بأنواع الفضل والشرف.
(وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ): أي تمسكوا بدينه وثقوا في نصرته وحسن مثوبته.
(هُوَ مَوْلاَكُمْ): ناصركم ومتولي أموركم.
(فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ): أي لا مولى ولا نصير سواه في الحقيقة.
* المناسبة:
بعد تقرير العقيدة بأقسامها الثلاثة: التوحيد والنبوة والبعث والجزاءفي سورة الحج ختم السورة بالكلام على الشرائع والأحكام من نواح أربع:
1- تعيين المأمور وهم المكلفون (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)
2- أقسام المأمور به – وهي أربعة: الصلاة، وعبادة الله وحده، وفعل الخير، والجهاد.
3- ما يوجب قبول تلك الأوامر، وهي ثلاثة: الاجتباء، وكون التكاليف والشرائع هي شريعة إبراهيم عليه السلام، وتسميتكم مسلمين في القرآن وسائر الكتب المتقدمة عليه.
4- تأكيد ذلك التكليف بالأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله تعالى أي الاستعانة به.
* المعنى الإجمالي:
بعد تقرير العقيدة بأقسامها الثلاثة وهي التوحيد والنبوة والبعث الآخر والجزاء فيه نادى الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين بعنوان الإيمان الدال على كمال الحياة الروحية، وقوة الإرادة العملية ناداهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي يا من آمنتم بالله ربا وإلها لا رب غيره، ولا إله سواه وآمنتم بمحمدنبيه ورسوله، وآمنتم بلقائه وما أعد لأوليائه وما لديه لأعدائه. (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) أي لربكم وحده فأطيعوه فيما يأمركم به وفيما ينهاكم عنه: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) وهو كل ما انتدبهم ربهم إليه ورغبهم فيه من أنواع البر وضروب العبادات ليتأهبوا بذلك للفلاح الذي هو الفوز بالجنة بعد النجاة من النار الدال عليه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وخص من الصلاة الركوع والسجود من بين أركانها لأنهما أشرف أجزائها وأدلها على خضوع العبد لربه وذلته له سبحانه وتعالى. كان هذا ما دلت عليه الآية الأولى.
أما الآية الثانية وهو قولهتعالى لهم: (وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ) فإنه أمرهم بأمر عظيم، إذ الأمر الأول في تأثيره في أرواحهم بالتطهير والصفاء أكثر من تأثيره في أبدانهم، وأما هذا الأمر فإنه ذو تأثير أعظم في الأرواح والأبدان معا، إنه جهاد أعدائه تعالى وأعدائهم، وهم الكافرون والمشركون والمنافقون، وهذا يتطلب بذل الأموال والأرواح كما هو جهاد الشيطان الذي لا يبرح يزين الشر، ويقبح الخير، يدعو إلى الخبث ويصرف عن الطهر حتى يهبط بالعبد إلى أسوأ الدركات في الخبث والشر والفساد، كما هو جهاد النفس الأمارة بالسوء، اللوامة عن فعله بعد أن تخضع العبد لفعله وهذا في مرحلة جهادها إلى أن تنهزم وتقهر فحينئذ تطيب وتطهر وتصبح المطمئنة التي لا ترتاح ولا تسعد إلا على ذكر الله تعالى وشكره بأنواع العبادات والقربات.
وقوله تعالى: (حَقَّ جِهَادِهِ) إنه بذل الطاقة البدنية والعقلية واستفراغ الجهد كاملا نفسا ومالا ودعوة في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى وحده، دل على هذا قوله تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللهِ) أي في سبيل إعلاء كلمته ونصرة أوليائه، على أنفسهم الأمارة بالسوء وعلى الشيطان المزين للباطل المقبح للحق، وعلى أعدائهم وهم الكفار والفجار الذين لا يريدون أن يعبد الله وحده، ولا أن يعز ويطهر أولياؤه. ولما كانت طاقة العبد محدودة ذكر أولياءه بأنه لا يكلفهم ما يوقعهم في الحرج الذي هو الضيق الذي لا يقدر العبد على اجتيازه ولا الخروج منه. ومن مظاهر رفع الحرجأنه تعالى فتح لهم باب التوبة، من أذنب منهم ذنبا فليتركه نادما على فعله مستغفرا ربه، فإنه يقبل ولا يرد.ومن رفع الحرج رخص للمريض والمسافر في الإفطار حال مرضهما أو سفرهما، ورخص للمريض أن يصلي قاعدا أو على جنب أو مستلقيا على حسب قدرته. ورخص للمريض والأعمى والأعرج في عدم الخروج إلى الجهاد في حال التعبئة العامة، ورخص لمن لم يجدالماء أوعجز عن استعماله أن يترك الغسل والوضوء ويتيمم بالتراب ويصلي، هذه جملة من رفع الحرج على أولياء الله المؤمنين.
وقوله تعالى: (مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) حث منه تعالى لعباده المؤمنين على أن يلزموا ملة أبيهم إبراهيم عليه السلام، إذ هو أبو إسماعيل وإسماعيل هو أبو العرب المستعربة الذين منهم سيد الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم حضهم وحثهم على لزوم عبادة الله تعالى وحده بما شرع، وترك الشرك والبدع. بقوله: (مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) أي الزموها ولا تخرجوا عنها فتتركوها وتستبدلوا بها غيرها، فإنها هي مناط عزكم وشرفكم، ومدار سعادتكم في الدنيا والآخرة. وذكرهم سبحانه وتعالى بشرف آخر أضفاه عليهم وهو أنه سماهم المسلمين في الكتب الأولى وفي القرآن الكريم، إذ قال لهم: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا) وعلة هذه التسمية المشرفة الرافعة للقدر والجاه والمنصب.
(لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ) لأنه أول من أسلم منكم فهو يعرف الإسلام وأهله لذا إذا استشهده الرب تبارك وتعالى شهد عليكم. وإذا استشهدكم أنتم شهدتم على الناس على من أسلم منهم قلبه ووجهه لله فعبده وحده ومن لم يسلم ذلك لله فعبد غير الله تعالى فأشرك وكفر وزاغ وضل وابتدع فضل سواء السبيل. وآخر ما ناداهم من أجله ودعاهم إليههو أن يقيموا الصلاة كما ينبغي أن تقام وما تقام به الصلاة هو:
1- الطهارة الكاملة برفع الحدث بالوضوء إن كان أصغر، وبالغسل إن كان أكبر، وطهارة البدن والثوب والمكان الذي يصلي فيه العبد من النجاسات كالبول والعذرة والدم.
2- أن تؤدى في أوقاتها المعلومة، فلا تقدم ولا تؤخر إلا لعلة سفر أو مرض.
3- أن تؤدى في جماعة المؤمنين، لا انفراديا إلا في ضرورة قصوى.
4- الإتيان بأركانها وهي قراءة الفاتحة في كل ركعة، والطمأنينة في الركوع والرفع منه، وفي السجود والجلوس مع اعتدال الأعضاء في ذلك كله.
5- مراعاة سننها وآدابها، حتى تصبح قادرة على إنتاج الطهر والصفا للروح. هذا معنى إقام الصلاة وأن يؤتوا الزكاة ويعتصموا بالله، بمعنى يتمسكوا بدينه الإسلام وما حواه من الشرائع والأحكام وآداب وأخلاق، إذ هو سبحانه وتعالى مولاهم، والمولى يجب أن يحب ويعظم ويطاع، فهو حينئذ نعم المولى لهم ونعم النصير، لأنهم أحبوه وعظموه وأطاعوه.
(تنبيه): القارئ لهذا النداء ولما سبقه من آيات إذا كان متطهرا إذا قال: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) خر ساجدا مسبحا، ثم يرفع رأسه مكبرا ويواصل قراءته لما بقي من الآيات. إذ هذه سجدة من سجدات القرآن، إلا أن هذه السجدة مختلف في مشروعيتها ولم يجمع عليها كما أجمعوا على سجدة الأعراف. والرعد، ومريم، وأولى الحج،والفرقان، والنمل، والسجدة، وفصلت، والانشقاق، والعلق، واختلف أيضا في سجدة ص، والنجم.
من وحي الآيات: في الركوع والسجود خضوع لله
يشمل منهج الله عزوجل كل حياة الإنسان ونشاطاته بشكل تفصيلي. فمنهج الله عزوجل ليس صلاة وصيامًا وحجًا وزكاة فحسب، بل هو مجموعة الأوامر والنواهي التي وردت في القرآن الكريم، والسنة الصحيحة.
لذلك جاء الأمر في الآية الكريمة للذين آمنوا بأن يؤدوا الصلاة. وقد عبر الله عنها بأخطر معنيين من معانيها، وهما: الركوع والسجود.
من أراد أن يُحدِّث ربه فليَدْعُه، ومن أراد أن يُحدِّثه ربه فليقرأ القرآن، فأنت حينما تقرأ الفاتحة. ويرد الله عزوجل قائلًا: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الإسراء: 53)، تطلب من الله عزوجل أن يهديك الصراط المستقيم، فطلب منك الركوعَ، وهو الخضوع لله سمعًا وطاعة دون اعتراض، أو تحفظ، أو استثناء، أو تمنٍّ، لذلك قالوا: "العبادة غاية الخضوع وغاية الحب".
والركوع خضوع لله، والسجود طلب العون منه. والركوع يعني: يا رب أنا خاضع لك لكنني ضعيف، والسجود يعني: يا رب أعني على طاعتك. ورد في بعض الأحاديث: "ألا أنبئكم بمعنى لا حول ولا قوة إلا بالله؟ معناه: لا حول عن معصيته إلا به، ولا قوة على طاعته إلا به"، قال تعالى: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ) (33) (يوسف: 33).
وقال: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصْنَامَ )(35) (إبراهيم: 35)، وقال: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) (40) (إبراهيم: 40)، وغاية العبادة أن تخضع لله، وتستعين على طاعة الله بالله، فالركوع خضوع، والسجود طلب العون من الله، الركوع والسجود يقابلان إياك نعبد، وإياك نستعين، لذلك قيل جُمِعَ القرآن في الفاتحة، وجمعت الفاتحة في إياك نعبد وإياك نستعين.
ولا تتوهم أن الدين صلاة فقط، فالدين منهج كامل، ينظم حياتك في فراشك، ومع أهلك، ومع أولادك، والدين منهج لك وأنت تغتسل، وتنام، وتأكل، وتغضب. ومنهج أنت في الطريق، وفي عملك، وفي متجرك، وعيادتك، ومكتبك الهندسي. وكذلك وأنت في السفر، وفي أحوال الصحة والمرض، والغنى، والفقر. فمنهج الله يدور معك في كل شؤون حياتك، لذلك نقول دائمًا: إياك نعبد وإياك نستعين، ونطبق كل منهجه.
إذًا العبادة هي الخضوع التام لتفاصيل المنهج، وأبرز شيء في الدين صلةً بالله الصلاةُ، ذلك أن الحج يسقط عن الفقير والمريض، والصيام يسقط عن المسافر والمريض، والزكاة تسقط عن الفقير، والنطق بالشهادة مرة واحدة، فيما الصلاة فرض يتكرر ولا يلغى أبدًا. قال صلى الله عليه وسلم: "الصلاة عماد الدين من أقامها فقد أقام الدين ومن تركها فقد هدم الدين" (أخرجه البيهقي في شعب الإيمان).
ومن معاني الصلاة الصيامُ؛ إذ إنك في أيام الصيام تمتنع عن الطعام والشراب، وفي الصلاة تمتنع عن الطعام والشراب والكلام والحركة، وفي الصلاة معنى الزكاة، لأن الوقت أصل في كسب المال، وفي الصلاة معنى الحج، لأنك تتوجه إلى البيت الحرام.
كان بائع عصير في سوق الحميدية حينما يؤذن الظهر في الجامع الأموي يغلق المحل ويذهب إلى الصلاة، حتى لو أمامه العشرات من الزبائن. نظريًا، في نصف ساعة قد يبيع مئتي كيس، ولكنه بتوجهه إلى الله، قد حقق معنى عبادة الله وفعل الخير. ففي معنى الزكاة أنت أنفقت أصل المال. والوقت أصل في كسب المال، ولسوف يبارك الله لك في وقتك ومالك.
شكا لي إنسان أنه يصلي ولا يحس بشيء، ويقرأ القرآن ولا يحس بشيء، يذكر الله ولا يحس بشيء مع أنه مستقيم، فقلت له: الاستقامة تحقق لك السلامة، والله يحفظ لك مالك، وأهلك، ومكانتك، وسمعتك، ولكن السعادة تحتاج إلى بذل، وعطاء، قال تعالى: (فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا) (الكهف: 110)، وعليك مع تنفيذ أمر الله بالركوع والسجود أن تعبد الله في تفاصيل المنهج، فليس لك أن تذبح شاة أمام أختها، وليس لك أن تفتح جوف السمكة قبل أن تسكن، وهناك عشرات ألوف التوجيهات لتطبيق المنهج بتفاصيله.
إنّ أهم عبادة في الإسلام هي الصلاة، وأهمّ ما فيها موقف الركوع، ولكن عبادة الله في تفاصيل المنهج لا تكفي؛ إذ على كل إنسان أن يحقق الهدف من وجوده في الدنيا وهو الفلاح في الآخرة. لأن الإنسان قَبِل حمل الأمانة. وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه، قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ) (الجاثية: 13).
وكان تسخيره جل وعلا تسخير تعريف وتكريم؛ إذ إن لأي شيء حولك وظيفتين: وظيفة تعريفية، ووظيفة تكريمية (نفعيّة).
إن مَنْ آمن بالله وشكره حقق الهدف من وجوده، ولكن متى يفلح؟ يفلح المؤمنون حينما يشكرون، ويحققون الهدف من وجودهم. فأنت حينما تؤمن وتشكر لأن الكون مسخر لك تسخير تعريف، وردّ فعل التعريف أنك آمنت بالله. وحينما ترى أن الكون مسخر لك تسخير تكريم، فإن ردّ فعل التكريم هو الشكر. فلو أهداك صديقك جهاز هاتف من اختراعه، وأصبح هذا الجهاز أمين سر لك، فيه ذاكرة، وخدمات، ومعلومات، فأنت حينما تعالج هذا الجهاز ينشأ عندك شعوران: شعور الإكبار من هذا الجهاز والذي صممه، مع شعور الامتنان لأنه قدمه لك، وردّ فعل التكريم أن تشكره، وردّ فعل التعريف أن تؤمن. إنك إن آمنت وشكرت حققت الهدف من وجوك، قال تعالى: (مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) (147) (النساء: 147).
والمصلي مستنير، ويلقي الله في قلبه النور، قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي) (14) (طه: 14)، وقال: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ )(19) (العلق: 19)، فالصلاة ذكر، وقرب، وطهور، ولا يوجد إنسان يتصل بالله اتصالًا حقيقيًا عنده حقد، وكبر، وغش، وحسد. والصلاة نور، واسمع قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ) (الحديد: 28). فالمصلي مستنير يقذف الله في قلبه النور. ولما دعت سيدنا يوسف امرأةٌ ذات منصب وجمال وهي سيدته، قال: معاذ الله، فألقى الله في قلبه النور. والنور هنا هو أنه كشف له عواقب الزنا. أما الأعمى، فهو على شاكلة ذلك السائق الذي أشارت إليه امرأة، فلما وقف سألها: إلى أين؟ قالت: حيث تريد. وظن أنها مغنم كبير، وقضى حاجته. ثم أعطته رسالة بعد أن غادرت المركبة، ولما فتحها وقرأها، وجدها تقول فيها: مرحبًا بك في نادي الإيدز. لماذا قال سيدنا يوسف: معاذ الله؟ لأنّ في قلبه نورًا، وأنت حينما تتصل بالله يلقي الله في قلبك نورًا. فلا تقعُ في خطأ كبير، وظلم شديد، ولا حماقة. كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أغمّه أمر يقول: "أرحنا بها يا بلال" (رواه أبو داود).
فالصلاة طهور، ونور، وحبور، وسعادة، والصلاة ذكر، قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) (14) ( (طه: 14)، والصلاة قرب، قال تعالى: ( وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (19) (العلق: 19)، والصلاة مناجاة: "ولو يعلم المصلي من يناجي ما انفتل". والصلاة عروج إلى الله، فهي معراج المؤمن. والصلاة عقل، ورد في الأثر: "ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها"، والصلاة علم، قال تعالى: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) (النساء: 43).
وقيمة الإنسان عند الله مرهونة بعمله الصالح. ومن الأعمال الصالحة تربية بناتك، وكسبك المال بالحلال، وإنفاقه بالحلال. وحسن معاملة والديك.
إنّ تطبيق منهج الله التفصيلي لا يكفي للمسلم للفوز العظيم، فأنت حينما تصلي وتعبد ربك، أي تطيعه في تفاصيل المنهج تحقق السلامة، أما السعادة والفلاح الذي نحققه من وجودنا في هذه الدنيا فيتم بفعل الخير. فالإنسان بالعبادة يسلم، وبالعمل الصالح يسعد.
إنّ الأمة الإسلامية تعيش ظروفًا صعبة، فهناك معركة بين الحق والباطل، وهي معركة أزلية لا تنتهي، لذلك لا بد من رفع مستوى العطاء إلى الجهاد، لمنع انتصار الطرف الآخر الذي يكيد للمؤمنين، ويريد أن يطفئ نور الله، ويقيم منهجه بدل منهج الله. ولقد شرف الله الأمة العربية إذ اختارها لتكون وسيطًا بينه وبين عباده.
* ما يستفاد من الآيات:
1- ظاهر هذه الآيات التي ختمت بها سورة الحج أنها جمعت أنواع التكاليف الدينية والاعتقادية والاجتماعية، وأحاطت بفروع الشريعة، وعنيت بأمر الصلاة؛ لأنها عماد الدين، ولم تكتف بطلبها في عموم العبادات.
2- فضيلة الصلاة وشرف العبادة وفعل الخير.
3- مشروعية السجود عند تلاوة هذه الآية (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
4- فضل الجهاد بأنواعه الثلاثة: جهاد الكفار والنفس والهوى والشيطان.
5- كون ملتنا كملة إبراهيم عليه السلام.
6- تسمية الله لنا بالمسلمين في الكتب المتقدمة وفي القرآن.
7- فضيلة هذه الأمة المسلمة، حيث أعطيت ثلاثًا لم يعطها إلا نبي قال قتادة: أعطيت هذه الأمة ثلاثًا لم يعطها إلا نبي كان يقال للنبي اذهب فلا حرج عليك – وقيل لهذه الأمة (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) والنبي شهيد على أمته – وقيل لهذا الأمة 0وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) ويقال للنبي: سل تعطى وقيل لهذه الأمة (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: 60).
8- إن قبول شهادة الأمة المسلمة على الأمم الأخرى نعمة عظمى تستوجب الشكر بأداء الفرائض واجتناب النواهي المحظورات، ومن أهم ذلك إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله، أي الثقة به والاستعانة به سحانه، فهو خالقنا ورازقنا ومالكنا وناصرنا ومتولي أمورنا سبحانه، فله الفضل والمنة، والله المستعان.
9- بيان أن الدين يسر لا عسر، وأنه كملة إبراهيم سمح لا شدة فيه.