نداءات الرحمن لأهل الإيمان _ النداء التاسع والأربعون (في بيان عوامل النصر في الجهاد)

نداءات الرحمن لأهل الإيمان  _ النداء التاسع والأربعون (في بيان عوامل النصر في الجهاد)
663 0

الوصف

النداء التاسع والأربعون
نداءات الرحمن لأهل الإيمان  _ النداء التاسع والأربعون (في بيان عوامل النصر في الجهاد)

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ (الأنفال: 45-47). 

  * موضوع الآيات: 

نصائح حربية –بين عوامل النصر في الجهاد، وهي طاعة الله والرسول، وعدم التنازع، ولزوم الصبر، والإخلاص لله. 

 *   معاني الكلمات:

 (فِئَةً): جماعة وطائفة مقاتلة. 

 (فَاثْبُتُوا): لقتالهم ولا تنهزموا. 

 (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا): ادعوه بالنصر – مهللين مكبرين، راجين النصر، سائلين الله تعالى ذلك. 

 (تُفْلِحُونَ): تفوزون بالنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة، بعد النجاة من الهزيمة في الدنيا والنار في الآخرة. 

 (وَلاَ تَنَازَعُوا): ولا تختلفوا وأنتم في مواجهة العدو. 

 (فَتَفْشَلُوا): أي تجبنوا. 

 (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ): قوتكم ودولتكم بسبب الخلاف. 

 (مَعَ الصَّابِرِينَ): بالنصر والعون والتأييد. 

 (خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم): ليمنعوا غيرهم ولم يرجعوا بعد نجاتها. 

 (بَطَرًا): البطر: الأشر، والمراد بهما التفاخر بالنعمة والتكبر والخيلاء. 

 (وَرِئَاءَ النَّاسِ): أي رياء. 

  * سبب النزول:

 (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أخرج ابن جرير الطبري عن محمد بن كعب القرظبي قال: لما خرجت قريش من مكة إلى بدر خرجوا بالقيان والدفوف، فأنزل الله تعالى ( وَلاَ تَكُونُوا) .. الآية، وقال البغوي في تفسيره المطبوع على هامش الخازن: نزلت في المشركين حين أقبلوا إلى بدر ولهم بغي وفخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تجادل وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني" قالوا: ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم فقد نجاها الله، فارجعوا. فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا، وكان موسمًا من مواسم العرب، يجتمع لهم بها سوق كل عام – فنقيم ثلاثًا، فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان (المغنيات)، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبدًا. فوافوها فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان، فنهى الله عباده المؤمنين أن يكونوا مثلهم، وأمرهم بإخلاص النية والحسبة في نصر دينه، مؤازرة رسوله صلى الله عليه وسلم. 

  * المناسبة:

بعد أن ذكر الله تعالى أنواع نعمه على رسوله وعلى المؤمنين يوم بدر علمهم إذا التقوا بفئة (أي جماعة) من المحاربين نوعين من الأدب هما الثبات أمام العدو في اللقاء، وذكر الله كثيرًا، ثم أمرهم بالتحلي بالطاعة والانقياد – أي طاعة الله والرسول، ونهاهم عن التنازع والاختلاف، حتى لا يفشلوا (أي يجبنوا) وتذهب قوتهم ودولتهم. 

*  المعنى الإجمالي للآيات:

هذا النداء الإلهي الكريم موجه إلى المؤمنين بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا، وقد أذن لهم في قتال أعدائه الكافرين به وبلقائه وكتابه ورسوله، فكانت أول سرية غزت سرية عبد الله بن جحش – رضي الله عنه – وتأتي غزوة بدر الكبرى، وانفتح باب الجهاد اليومي على مصراعيه، وهم في حاجة إلى تعليم رباني وهداية إلهية يعرفونبموجبهما كيف يخوضون المعارك وينتصرون فيها. وفي هذه الآيات الثلاث التي تضمنها هذا النداء الكريم تعليم عال جدا لخوض المعارك والانتصار فيها وهذا بيانها:

1- الثبات في وجه العدو، والصمود في القتال حتى لكأن المجاهدين جبل شامخ لا يتحرك، دل على هذا قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً) طائفة مقاتلة (فَاثْبُتُوا) أي في وجه تلك الطائفة الكافرة المقاتلة ولا تفروا أبدا. 

2- ذكر الله تعالى تهليلا وتكبيرا وتسبيحا ودعاء وضراعة، وذكر وعده تعالى لأوليائه بالنصر ووعيده لأعدائه بالهزيمة. دل عليه قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي تفوزوا بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة بعد النجاة من الهزيمة والمذلة في الدنيا والنار وعذابها في الآخرة. 

3- طاعة الله ورسوله في أمرهما ونهيهما، وطاعة قائد المعركة ومديرها، إذ طاعته ثابتة بآية: (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ) وهذه الطاعة كما ذكرنا من أكبر عوامل النصر حسب سنة الله تعالى في هذه الحياة. 

4- عدم التنازع والخلاف، إذ هما من موجبات الفشل الذريع، وذهاب القوة وحصول الهزيمة المدمرة والعياذ بالله. دل على هذا قوله تعالى: )وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ( والريح القوة وهي الغلبة والنصر. كما يقال: الريح لفلان إذا كان غالبا، وشاهده من شعر العرب:

إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل خافقة سكون

ومن أراد فهم معنى الريح المفسرة بالقوة والنصر فليقف في طريق السيارات أي إلى جانب الطريق ولينتظر حتى تمر به شاحنة مسرعة في جريها فإنها تدفعه بريحها كعاصفة شديدة من الرياح، ومن ثم يعرف معنى الريح في هذا النداء وأنه القوة الدافعة للعدو؛ لأن المجاهدين إذا اتحدوا وصاروا صفا واحدا وهجموا يوجد لهم قوة أعظم من ريح الشاحنة القوية، وهم في طريقهم إلى دفع العدو وكسره وتحطيم قوته. 

5- بيان نتائج التنازع والخلاف، وأنها الفشل الذريع وذهاب القوة المعبر عنها بالريح لقوله تعالى: (وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) 

6- الصبر أي على مواصلة القتال بعد الإعداد له وتوطين النفوس وإعدادها للجهاد في سبيل الله تعالى لقوله تعالى: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) أي بالنصر والفوز بعد التثبيت أثناء القتال. 

7-الإخلاص لله تعالى في الجهاد كما هو في سائر العبادات، إذ الإخلاص روح العبادة فإن فقد فقدت، إذ قال تعالى بعد الآية الثالثة: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ) فحذر المؤمنين من أن يكونوا كأولئك الذين خرجوا من ديارهم لقتال المؤمنين بطرين متكبرين مرائين بخروجهم وقتالهم غيرهم من المؤمنين لصد الناس عن الإسلام. 

فلنذكر أيها القارئ الكريم أن هذه العوامل عوامل النصر وهي أفعال وتروك قد تضمنتها الآيات الثلاث التي نادى الله (عز وجل) عباده المؤمنين من أجلها. فلنحفظ الآيات ولنكرر قراءتها وقراءة معانيها فنصبح بذلك أهلا لقيادة الجيوش وخوض المعارك. ولن يصل إلى مستوانا الرفيع قائد معارك ولو درس في كل كليات الحرب في العالم الكافر الفاجر. 

وهناك معلومات إضافية إليك بيانها:

1- الذكر أثناء الجهاد يكون سرا إلا ما كان عند الهجمة الأولى فإنه يكون برفع الصوت الله أكبر الله أكبر وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب الصمت عند ثلاث: عند تلاوة القرآن، وعند الزحف، وعند الجنازة"، والذكر المأمور به في القتال يكون بالسر بالقلب واللسان إذ صح قول الرسول صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: "إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو يناجز قرنه" أي لا يشغله ذلك الحال عن ذكري ودعائي واستعانتي. 

2- قال أحد العلماء الربانيين لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا إذ قال تعالى له: (أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا) ولو رضي لأحد في ترك الذكر لرخص للمجاهد في المعركة. ومن هنا لا يترك الذكر إلا في حال واحدة وهي حال جلوس العبد لقضاء الحاجة "التغوط".

3- اعلم أنه لا جهاد للكفار بدون إمامة شرعية. فلا يحل لرجل أو فئة أن تقاتل بدون إذن إمام المسلمين وتعيينه قائدا يقودهم في ساحات الجهاد. 

  بركة طاعة الله ورسوله في الحروب

قال ابن كثير رحمه الله: وقد كان للصحابة رضي الله عنهم في باب الشجاعة والائتمار بما أمرهم الله به ورسوله وامتثال ما أرشدهم الله ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم، ولا يكون لأحد ممن بعدهم، فإنهم ببركة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته فيما أمرهم فتحوا القلوب والأقاليم شرقا وغربا في المدة اليسيرة مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم من الروم والفرس والترك والصقالبة والبربر والحبوش وأصناف السودان والقبط وطوائف بني آدم، قهروا الجميع حتى علت كلمة الله وظهر دينه على سائر الأديان، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها في أقل من 30سنة، فرضى الله عنهم وأرضائهم أجمعين، وحشرنا في زمرتهم إنه كريم وهاب. ((تفسير ابن كثير 2 16)). 

قلت: وفي العصر الحاضر نرى ونشاهد ونسمع أن كثرة العدد والعدة والقوات الحربية لا تنفع ولا تجدي شيئا مع عدم الإيمان بالله والالتزام بأوامره واجتناب نواهيه، ومثل ذلك واضح للعيان، في حرب أفغانستان، وكسوفا والشيشان، حيث ثبتت القلة مع المسلمين لحرب أعتى أعداء الله من الطغاة الملحدين بمعداتهم الحربية الضخمة، ولكن الله سبحانه متم نوره ولو كره الكافرون، ولو كره المشركون، وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم: "ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، فما من بيت مدر ولا وبر إلا دخله بعز عزيز وذل ذليل، عزًا يعز الله به الدين وذلا يذل به المشركين". 

*  ما يستفاد من الآيات:

1- بيان أسباب النصر وعوامله ووجوب الأخذ بها في كل معركة، وهي الثبات وذكر الله تعالى وطاعة الله ورسوله وطاعة القيادة وترك النزاع والخلاف والصبر والإخلاص. 

2- بيان عوامل الفشل والخيبة وهي النزاع والاختلاف والبطر والرياء والاغترار. 

3- ضمانا للإخلاص في طلب مرضاة الله ختمت الآية بقوله: (وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) ؛ لأن الإنسان ربما أظهر الإخلاص والحقيقة بخلافه، فيكون الله أعلم بما في القلوب، وهذا كالتهديد والزجر عن الرياء والتصنع.