نداءات الرحمن لأهل الإيمان _ النداء السابع والأربعون (النهي عن خيانة الله والرسول صلى الله عليه وسلم.)

نداءات الرحمن لأهل الإيمان _  النداء السابع والأربعون    (النهي عن خيانة الله والرسول صلى الله عليه وسلم.)
489 0

الوصف

  النداء السابع والأربعون

  النهي عن خيانة الله والرسول صلى الله عليه وسلم. 

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (الأنفال: 27-28). 

  * موضوع الآيات:

 النهي عن خيانة الله والرسول وخيانة الأمانة والتحذير من فتنة المال والولد

*  معاني الكلمات:

 (لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ): أي بإظهار الإيمان والطاعة ومخالفتهما في الباطن. 

 (وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ): ما اؤتمنتم عليه من الدين وغيره من التكاليف الشرعية، والأمانة كل حق يجب أداؤه إلى الغير. 

 (أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ): أي الاشتغال بذلك يفتنكم ويشغلكم عن طاعة الله ورسوله. 

 (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ): فلا تضيعوه بمراعاتة مصالح الأموال والأولاد. 

  * سبب النزول:

روى عبد الرزاق وسعيد بن منصور عن عبد الله بن أبي قتادة قال: نزلت هذه الآية )لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ( في أبي لبابة بن عبد المنذر سأله بنو قريظة يوم قريظة: ما هذا الأمر؟ فأشار إلى حلقه يقول: الذبح فنزلت قال أبو لبابة: ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله – فالآية نزلت في أبي لبابة مروان بن عبد المنذر، وكان حليفًا لبني قريظة من اليهود وقد بعثه صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة؛ لينزلوا على حكمه فاستشاروه، فأشار عليهم أنه الذبح؛ لأن عياله وماله وولده كانت عندهم، وذلك بعد أن حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين ليلة. 

قال الزهري: فلما نزلت الآية شد نفسه على سارية من سواري المسجد، وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت، أو يتوب الله على، فمكث تسعة أيام وفي رواية: سبعة أيام، لا يذوق فيها طعامًا، حتى خر مغشيا عليه. ثم تاب الله عليه. 

فقيل: يا أبا لبابة قد تيب عليك؟ فقال: لا والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني، فجاء فحله بيده. ثم قال أبو لبابة: إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجزيك الثلث أن تتصدق به". 

  * المناسبة:

لما ذكر الله سبحانه وتعالى أنه رزق العباد من الطيبات، وأنعم عليهم بالنعم الجليلة- مَنَعَهم هنا من الخيانة في الغنائم وغيرها من التكاليف الشرعية. 

*  المعنى الإجمالي:

في هدا النداء نجد الحق سبحانه وتعالى نادى عباده المؤمنين لينهاهم عن أمر خطير وهو خيانتهم له سبحانه بأن يُظْهر أحدهم الطاعة ويخفي المعصية، إذ هذا الوصف لا يليق بالمؤمن أبدا، وإنما هو وصف المنافقين، لذا نهاهم عنه وحذرهم أن يكون فيهم. كما نهاهم عن خيانة الأمانات التي يُؤْتَمَنُونَ عليها وهي خاصة وعامة، فالخاصة هي ما يؤمن عليه المرء من أخيه كمال، أو سر من الأسرار، والعامة هي كل التكاليف الشرعية التي كلفنا الله تعالى بها حتى الغسل من الجنابة أمانة. وقوله: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) عظم جريمة الخيانة وآثارها السيئة على النفس والمجتمع معا. 

وقوله تعالى في الآية الثانية: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أعلمهم بما من شأنه أن يكون السبب الحامل للعبد على خيانة أمانته ألا وهو حب المال والولد، وهو حب فطري إذا لم يقاومه العبد بالخوف من الله، وبمراقبته تعالى لا يسلم من أذاه وفتنته كما قال تعالى: (أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ) ومن شأن الفتنة أنها تصرف عن طاعة الله ورسوله ومن لم يطع الله ورسوله خسر دنياه وآخرته. 

وقوله تعالى: (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) تنبيه لهم على أن تركهم ما تدعوهم إليه أنفسهم من خيانة الأمانات لأجل الحفاظ على أموالهم، وإسعاد أولادهم عند الله ما هو خير منه وهو الجنة دار السلام، فإن تركوا ما تدعو إليه نفوسهم إلى ما يدعو إليه ربهم سبحانه وتعالى، فإن الله يجزيهم بأعظم أجر وأحسن جزاء؛ لأنه تعالى عنده الأجر العظيم يعطيه من جاهد نفسه وصبر على طاعة ربه (عز وجل) وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فلم يخن الله ورسوله، ولا أمانته وقد يكون الأجر في الدنيا بالرزق الحسن، والعيش الرغد زيادة على الجنة ونعيمها في الدار الآخرة، إذ ورد أن العبد إذا ترك شيئا من أمور دنياه لله عوضه الله خيرا منه في دنياه وأخراه. 

وحادثة أبي لبابة التي ذكرنا أنها كانت سببا في نزول الآية إلا أن العبرة فيها لعموم المسلمين ولا تربط بخصوص السبب في حادثة معينة، فالله عز وجل نادى المؤمنين ونهاهم عن خيانة الله وخيانة رسوله فيما يتعلق به تعالى وبرسوله من طاعتهما في الأمر والنهي في الظاهر والباطن، وفيما يتعلق بسائر الأمانات إذ قال عز من قائل: (لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ) أي ولا تخونوا أماناتكم. 

وأخيرا فلا ننس العبرة العظيمة في حادثة أبي لبابة وهي أن المؤمن إذا غفل فاستزله الشيطان فخان أمانة من أماناته فإنه على الفور يتوب إلى الله تعالى فيكرب ويحزن ويكثر من الاستغفار والصالحات ويتصدق بمال كثير، بعد أن يعترف بزلته ويرد الحق إلى أهله، ومن تاب تاب الله عليه، والله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر إلا أن التوبة تجب على الفور ولا يحل تأخيرها أبدا، ولا عذر لأحد في تأخير التوبة لقول الله تعالى: )ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ( والقرب هو ساعة ارتكاب المعصية والشعور بذلك. . ولنتأمل توبة أبي لبابة فإنه لم يؤخرها دقيقة واحدة. 

وفعل في توبته ما لا يقدر عليه غيره فرضي الله عنه وأرضاه. 

 * ما يستفاد من الآيات:

1- تحريم الخيانة مطلقا، وأسوؤها ما كان خيانة لله ورسوله. 

2- وجوب الأمانة وهي أداء التكاليف الشرعية والأعمال التي اؤتمن عليها العباد. 

3- الأموال والأولاد فتنة واختبار، يمتحن بها المؤمن الصادق والإيمان، وقد تحمل على خيانة الله ورسوله، فليحذر المؤمن. 

4- ختم الله سبحانه الآية بقولها: "وأن الله عنده أجر عظيم" للتنبيه على أن سعادة الآخرة خير من سعادة الدنيا؛ لأنها أعظم شرفا، وأتم فوزًا. 

 * من وحي الآية: الأمانات المعلّقة بعنق الإنسان

قال بعض العلماء: إن عدم أداء الإنسان للفرائض، وفعله المحرمات خيانة لله تعالى. وقوله تعالى: (لَا تَخُونُوا اللَّهَ) أي لا تعطلوا فرائضه، ولا تتجاوزوا حدوده. ولا تخونوا الرسول؛ أي لا ترفضوا سنته، ولا تفشوا سره. 

وهناك أمانات كثيرة معلقة بعنق الإنسان. وقد وردت كلمة (أمانات) بصيغة الجمع؛ لأنها كثيرة، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: 58)، ومن هذه الأمانات: أمانة التكليف، قال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ) (الأحزاب: 72). 

فالله سبحانه وتعالى كلَّف المسلم بأن يعرفه من خلال خلقه، ومن خلال قرآنه، ومن خلال أفعاله. ثم أعطاه منهجًا عن طريق رسوله، وكلفه بأن يطبق هذا المنهج، ثم أمره بأن يتقرب إليه بالعبادة، والعمل الصالح، وهذه أمانة التكليف؛ حتى يسعد بقربه في الدنيا والآخرة. 

والأمانة هي نفسك التي بين جنبيك، التي سلمها الله لك، وجعلها أمانة بين يديك، قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10) ) (الشمس: 9 – 10)، أي؛ عرَّفها بربها، وحملها على طاعته، وقرَّبها منه بالأعمال الصالحة، فاتَّصلت به، وزكت وسمت، وسعدت في الدنيا والآخرة. 

ومن الأمانات: أمانة التبيين للعلماء؛ إذ عليهم أن يبينوا ويوضحوا دون أن تأخذهم في الله لومة لائم، قال تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ) (الأحزاب: 39)، أمانة التبليغ للأنبياء؛ إذ العلماء يبينون، والأنبياء يبلّغون، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (المائدة: 67). 

وهناك أمانة الولاية للحكام: وهذه الأمانة توضحها فاطمة بنت عبد الملك زوجة الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز؛ إذ تروي أنها دخلت على زوجها يومًا في مصلّاه، فوجدته واضعًا يده على خده ودموعه تسيل، فقالت له: ما بالك تبكي؟ فقال: ويحك يا فاطمة، إني قد وُليتُ هذا الأمر، ففكرت في الفقيرِ الجائع، والمريضِ الضائع، والعاري المجهول، واليتيمِ المكسور، والمظلومِ المقهور، والغريب، والأسير، والشيخِ الكبير، والأرملةِ الوحيدة، وذي العيالِ الكثيرة والرزقِ القليل، وأشباهِهم في أطرافِ البلاد، فعلمتُ أن الله سيسألني عنهم جميعًا يومَ القيامة، وأن خصمي دونهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فخشيت ألا تَثْبُت حجّتي، فلهذا أبكي. 

فإن سلّمك الله مقاليد البشر، فعليك تحمل تبعات أمانة الولاية. قال الصحابي أبو ذر الغفاري رضي الله عنه يومًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ أي؛ في وظيفة أو منصب، فَقَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا)  (رواه مسلم). 

ومن الأمانات: أمانة التولية لتعيين الموظفين، فسيدنا عمر يتحمل أمانة الولاية، ولمّا ولّى عاملًا، أي محافظًا – بلغة اليوم – سأله: ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارق أو ناهب؟ قال: أقطع يده، قال: إذًا فإن جاءني من رعيتك من هو جائع أو عاطل فسأقطع يدك. إن الله قد استخلفنا عن خلقه لنسد جوعتهم، ونستر عورتهم، ونوفر لهم حرفتهم، فإن وفينا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها، إن هذه الأيدي خلقت لتعمل، فإذا لم تجد في الطاعة عملًا التمست في المعصية أعمالًا، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية. 

ومن ولّى واحدًا على عشرة أشخاص، وفي الناس من هو أرضى لله عزوجل ممن ولّاه، فقد خان الله ورسوله. وفي البلاد المتخلفة تبنى العلاقات، وتوزّع المناصب على أساس انتمائي؛ حزبي أو قَبَلي، فيما الدول المتقدمة تبني مقاييسها على أساس موضوعي عنوانه الكفاءة، والفرق كبير بين أن تكون المقاييس انتمائية أو موضوعية. 

وأما أمانة الواجب: فهي أن تقوم بما أوكله الله عزوجل إليك على أحسن الأحوال، متحملًا المسؤولية كاملة بأمانة. قال صلى الله عليه وسلم: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ، وَهِيَ مَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"  (متفق عليه). 

وقد أمرنا الله بتأدية الأمانات إلى أهلها مهما صغرت، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: 58). 

فالطالبُ أمانة في عنق المعلم، وعليه الاعتناء به، من حيث تعليمه، وتوجيهه، فهل علمته، ووجهته، ولاحظت نقاط ضعفه، وقوّمت أخلاقه، وعملت على إصلاحه. والمريض أمانة في عنق الطبيب، يحرص على شفائه لا على ابتزاز ماله. والموكِّل أمانة في عنق المحامي ليصدقه وينصحه، ويعلمه بمدى نجاح دعواه، دون إيهام أو تدليس أو مماطلة يبتز بها مبالغ طائلة منه. والأبنية، والمنشآت، والجسور، والطرقات، أمانة في عنق المهندس الذي صممها، ونفذها، والمهندس الذي أشرف عليها والذي تسلّمها. أحيانًا يكون خطأ بالتسليم فينهار البناء، لأن المهندس خان أمانته فقبض مبلغًا من المال رشوة مقابل غضّ الطرف عن مواصفات البناء. والصنعة والحرفة أمانة في عنق الصانع فهل أتقنها وحسنها، وطورها أم أهملها؟ فكانت العيوب والنقائص، والخلل والفساد. 

والشجرة والنبتة أمانة في عنق الزارع، وسيسألُ يوم القيامة إن كان قد رشّها بهرمونات فأصبحت الفواكه مسرطنة، أو استعمل أسمدة تدخل في تركيب الفاكهة يسمونها سمادًا بنائيًا، فإن هرمن الفواكه والخضروات فقد خان الأمانة. 

والمستهلك أمانة في عنق البائع، وعليه نصحه لا غشه في النوع أو في الكم أو في المنشأ أو في السعر. البيوع أمانة، والديون أمانة، والمواريث أمانة، وعلينا أن نوزعها وفق شرع الله وعدم حرمان البنات منها، إن الإنسان متعلق برقبته عشرات ألوف الأمانات، قال تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) ) (الحجر: 92 – 93). 

ومن الأمانات: أمانة الأعراض: فهذه المرأة التي قلت إنها ليست مستقيمة، هل عندك دليل صحيح يثبت ذلك؟ إن قذف محصنة يهدم عمل مئة سنة. ويلحق بأمانة الأعراض، أمانة الحواس التي يجب أن توجه للعمل بما يرضي الله، الذي يعلم ما جهر به الإنسان وما أخفاه، قال تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) ) (غافر: 19). 

أما الأمانة العلمية: فهي أن لا تنسب كتاب غيرك إليك، أو تسرق منه، دون الإشارة إلى أنك استفدت من علم غيرك في كتابك. 

ولا يتجلى حرص الإنسان على الدين، والالتزام بتعاليمه في المسجد فحسب، وإنما يتجلى من خلال معاملته للآخرين. والمؤمن يعلم علم اليقين أن دينه ينبغي أن يكون ملتزمًا به في البيت، والمتجر، وكافة شؤون الحياة، فالدين منهج متكامل. ولو أن أحدًا غشّ المسلمين فإنه ألغى عباداته كلها. قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: قولوا لفلان: إنه ألغى جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

ومن لم يستقم على أمر الله عزوجل فلن يقطف من ثمار الدين شيئًا، فالدين له شكل، وإطار، ومضمون. والمستقيم على أمر الله يعلم علم اليقين كيف أن الله يحفظه، ويوفقه، ويرعاه، ويدعمه، ويدافع عنه، وينصره. هذه المعية الخاصة ثمنها الاستقامة، والدين كله بكل تفاصيله وفروعه، تعبّر عنه كلمة واحدة هي: الاستقامة. 

إن أساليب الاحتيال والغش لا يعلمها إلا الله. والمسلم حينما يحتالُ ويغش، ويخون الأمانة، يسقط من عين الله، ويصبح محجوبًا عن الله عزوجل. والمسلم الذي يغش الناس، ويصلي في المسجد لا قيمة لصلاته عند الله؛ إذ لا بد من الالتزام بمنهج الله، قال تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ) (هود: 112). 

أيها الإنسان: أدِّ الذي عليك، واطلب من الله الذي لك. استقم على أمر الله تمامًا ولو لم يكن مظهرك دينيًا. سِرْ على الطريق الصحيح تكن قريبًا من الله عزوجل، ويلقي في قلبك السكينة، ويوفقك، وينصرك، ويحفظك، ويكرمك. 

إن الاستقامة وأداء الأمانات هي جوهر هذا الدين. تأمل قول الأعرابي الفقير، غير المتعلم، الذي لقيه عبد الله بن عمر فقال له: بعني هذه الشاة وخذ ثمنها، فقال له الراعي: ليست لي، قال: قل لصاحبها: ماتت، أو أكلها الذئب، وخذ ثمنها. قال الراعي: والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها: ماتت، أو أكلها الذئب لصدقني، فإني عنده صادق أمين، ولكن، أين الله؟ 

إن هذا الراعي البسيط وضع يده على جوهر الدين، وهو أداء الأمانة وعدم الخيانة، حتى لو لم يره صاحب الشاة، لأنه واثق من رؤية الله له.