نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الثالث والأربعون (في وجوب الإشهاد على الوصية)

نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الثالث والأربعون (في وجوب الإشهاد على الوصية)
463 0

الوصف

نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الثالث والأربعون (في وجوب الإشهاد على الوصية)

النداء الثالث والأربعون:

الشهادة على الوصية حين الموت

قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآَثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" (المائدة: 106-108).

الموضوع: الشهادة على الوصية حين الموت وأحكامها.

معاني الكلمات:

"شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ" : الشهادة قول صادر عن علم بواقعة بواسطة الْحِسِّ البصري (المشاهدة) أو السمعي.

"بَيْنِكُمْ" : أي شهادة بعضكم على بعض.

"إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ" : أي بأن كنتم مسافرين.

"مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ" : صلاة العصر.

"إِنِ ارْتَبْتُمْ" : شككتم في سلامة قولهما وعدالته.

"فَإِنْ عُثِرَ" : أي وقف على خيانة منهما فيما عهد به إليهما حفظه.

"أَدْنَى" : أي أقرب.

"عَلَى وَجْهِهَا" : أي صحيحة كما هي، لا نقص فيها ولا زيادة.

"الْفَاسِقِينَ" : الذين لم يلتزموا بطاعة الله ورسوله في الأمر والنهي.

المناسبة:

حكم الله سبحانه في الآية السابقة أن المرجع والمصير إليه بعد الموت، وأنه يحاسب الناس ويجازيهم على أعمالهم إلى يوم القيامة، فناسب أن يذكر ما تتطلبه الوصية قبل الموت من إشهاد حفاظًا عليها وإثباتًا لها لتنفيذها.

سبب النزول:

روى البخاري والدارقطني والطبراني وابن المنذر عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان تميم الداري وعدي بن بداء رجلين نصرانيين يتجران إلى مكة في الجاهلية، ويطيلان الإقامة بها، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم حولا متجرهما إلى المدينة فخرج بديل السهمي مولى عمرو بن العاص تاجرا حتى قدم المدينة، فخرجوا جميعا تجارا إلى الشام، حتى إذا كانوا ببعض الطريق اشتكى بديل فكتب وصيته بيده، ثم دسها في متاعه وأوصى إليهما، فلما مات فتحا متاعه فأخذا منه شيئا (إناء من فضة منقوشا بالذهب) ثم حجراه كما كان، وقدما المدينة على أهله، فدفعا متاعه، ففتح أهله متاعه فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به، وفقدوا شيئا فسألوهما عنه، فقالوا: هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا. 

فقالوا لهما: هذا كتابه بيده: قالوا: ما كتبنا له شيئا فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ" فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوهما في دبر صلاة العصر بالله الذي لا إله إلا هو ما قبضنا غير هذا، ولا كتمنا. فمكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم ظهر معهما إناء من فضة منقوش مموه بالذهب, فقال أهله: هذا من متاعه قالا: نعم وكلنا اشتريناه منه، ونسينا أن نذكره حين حلفنا، فكرهنا أن نكذب نفوسنا. فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية "فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا" فأمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من أهل البيت أن يحلفا على ما كتما وغيبا ويستحقانه.

ثم إن تميما الداري أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم وكان يقول: صدق الله ورسوله، أنا أخذت الإناء. ((تفسير الطبري 7/57)).

المعنى الإجمالي:

هذا النداء الإلهي يحمل هداية وإرشادا للمؤمنين بحل مشكلة عويصة قد تحدث لبعضهم في يوم من الأيام وهذا بيان ما تضمنه النداء الجامع لثلاث آيات من كتاب الله.

الأولى: قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" أي يا من آمنت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا "شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ" أي ليشهدا "اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ" أي من المسلمين على وصية أحدكم إذا حضره الموت، وعنده ما يوصي به من مال وحقوق. هذا في الحضر أما إذا كان أحدكم مسافرا وحضره الموت، ولم يكن معه في سفره مسلم، وإنما معه كفار فقط فليشهد الكافر للضرورة. وإن حصل ريب وشك في صحة ما شهدا به المؤمنان أو الكافران فاحبسوهما أي أوقفوهما بعد صلاة العصر فيقسمان لكم بالله، فيقولان في قسمهما: والله لا نشتري بأيماننا ثمنا قليلا ولا نكتم شهادة الله، لأنا نكون حينئذ من الآثمين ونحن لا نرضى الإثم لأنفسنا، هذا إن حصل لكم ريب وشك في شهادتهما سواء كانت الشهادة في الحضر أو السفر إلا أنها في السفر أقرب لحصول الريب والشك في صحة شهادة الشهود، وإن وجد عند الشاهدين اللذين شهدا وحلفا على شهادتهما إن وجد عندهما خيانة وكذب بما ظهر من آثار ذلك فليحلف منكم آخران يردان شهادة وحلف الأولين كما قال تعالى: "فَآخَرَانِ يَقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ" أي الأحقان بالشهادة فيحلفان قائلين: "لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا" أي لأيماننا أصدق وأصح من أيمانهما، "وَمَا اعْتَدَيْنَا" أي عليهما باتهام باطل وكذب مفترى، لأنا لو فعلنا ذلك لكنا من الظالمين، إذ قال تعالى عنهما: "وَمَا اعْتَدَيْنَا" أي في أيماننا إنا إذا من الظالمين.

والثانية: قوله تعالى: "ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ" أي ما شرعه تعالى لكم من الإشهاد والأيمان على الشهادة، وقيام شاهدين لرد شهادة المرتاب فيهما لا سيما إذا ظهرت علامة عدم صدقهما أقرب أن يصدق الشهود في شهادتهم وفي أيمانهم.

والثالثة: قوله تعالى: "أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ" أي وأقرب أيضا إلى أن يخاف الشهود أن ترد أيمانهم إذا هم حلفوا، فهم لذلك لا يكذبون خوف الفضيحة أن تلحقهم.

والرابعة: قوله تعالى: "وَاتَّقُوا اللهَ" أي خافوه أيها المؤمنون، فلا تخرجوا عن طاعته بترك أوامره أو بغشيان معاصيه "وَاسْمَعُوا" أي ما تؤمرون به واستجيبوا لله فيه. ومن ذلك قبول هذا التوجيه الإلهي في وجوب الإشهاد على الوصية عند الوفاة وجواز إشهاد غير المسلم في حالة انعدام وجود المسلم كما في السفر. ثم إن حصل ريب وشك في الشهادة فليقم اثنان ذوا عدل منكم ويردان الشهادة بأيمان... وإن حصل أيضا بعد الإشهاد والحلف ظهور علامة خيانة وكذب في الشهادة فليقم آخران يردان الشهادة ويعطيان الحق المطلوب.

والخامسة: قوله: "وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" أي إلى ما فيه خيرهم وسلامهم وسعادتهم وكمالهم، لأنهم خبثوا أنفسهم ودنسوها بالذنوب والآثام. ألا فلنحذر الغش وهو خروج عن طاعة الله وطاعة رسوله. ومن الفسق ما هو كفر، ومنه ما هو من كبائر الإثم والفواحش، فلنحذره إذ كله مانع من هداية الله تعالى، إذ العبد إذا توغل في الشر والفساد يصبح غير أهل لطلب الهداية بالتوبة والاستقامة، ومن ثم يحرم هداية الله تعالى.

ما يستفاد من الآيات:

1- مشروعية الوصية في الحضر والسفر معا، والحث عليهما، والترغيب فيها.

2- وجوب الإشهاد على الوصية.

3- إن الوصية معتبرة ولو كان الإنسان وصل إلى مقدمات الموت وعلاماته ما دام عقله ثابتًا.

4- الأصل كون الشاهدين مسلمين عدلين.

5- جواز شهادة غير المسلم على المسلم للضرورة والحاجة كتعذر وجود المسلم.

6- استجاب الحلف بعد صلاة العصر تغليظا في شأن اليمين.

7- مشروعية تحليف الشهود إذا ارتاب القاضي فيهم أو شك في صدقهم.

8- أن الشاهدين إذا لم يحصل ريبة ولا شك ولا تهمة لم يكن حاجة إلى حسبهما وتأكيد اليمين عليهما.

9- تعظيم أمر الشهادة، حيث أضافها سبحانه إلى نفسه، وأنه يجب الاعتناء بها والقيام بها بالقسط.

10- إذا وجدت القرينة الدالة على كذب الوصيين في هذه المسألة قام اثنان من أولياء الميت، فأقسما بالله إن إيماننا أصدق من إيمانهما، ولقد خانا وكذبا ثم يدفع إليهما ما ادعياه، وتكون القرينة مع أيمانهما قائمة مقام البينة.

11- ينبغي أن يكتب الوصية طالب علم، لتؤدي الوصية هدفها الصحيح، ذلك لأن من ينظر في واقع الناس اليوم يجد مشكلات كثيرة في هذا الجانب: إما من تعطيل الوصية أو أثرها في الشحناء والتقاطع بسبب عدم بعد النظر في كتابة الوصية وقصرها على أغراض غير مهمة.

يقول صلى الله عليه وسلم: "ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده"، ويقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد تصدق عليكم بثلث أموالكم".