نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الثاني والأربعون (في الأمر بإصلاح المؤمن نفسه وتطهيرها بالإيمان والعمل الصالح)
الوصف
نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الثاني والأربعون (في الأمر بإصلاح المؤمن نفسه وتطهيرها بالإيمان والعمل الصالح)
النداء الثاني والأربعون:
الأمر بإصلاح المؤمن نفسه
قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" (المائدة: 105).
موضوع الآية: في الأمر بإصلاح المؤمن نفسه وتطهيرها بالإيمان والعمل الصالح
في الأمر بإصلاح المؤمن نفسه وتطهيرها بالإيمان والعمل الصالح وإعلامه بأنه لا يضره من ضل من الناس.
معاني الكلمات:
"آمَنُوا" : صدقوا الله ورسوله واستجابوا بفعل الأوامر وترك النواهي.
"عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ" : ألزموا أنفسكم هدايتها وإصلاحها.
"إِذَا اهْتَدَيْتُمْ" : إلى معرفة الحق ولزوم طريقه.
"فَيُنَبِّئُكُمْ" : يخبركم بأعمالكم ويجازيكم عليها، إن خيرًا فخير، وإن شرا فشر.
المناسبة:
لما بين الله تعالى أنواع التكاليف والشرائع والأحكام، ثم قال: "وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ" (النور:54)، ثم نعى على المشركين تقاليدهم الآباء في قوله: "قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا" (المائدة:104)، وندد بإعراضهم عن الإعذار والإنذار والترغيب والترهيب، وبقوا مصرين على جهلهم مقيمين على ضلالهم؛ لما بين سبحانه كل ذلك قال الله للمؤمنين: "لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ" فلا تبالوا أيها المؤمنون بجهالتهم وضلالهم، بل أصلحوا أنفسكم ونفذوا تكاليف الله وأطيعوا أوامره واجتنبوا نواهيه.
والخلاصة:
وجه اتصال هذه الآية بما قبلها التحذير مما يجب التحذير منه.
بين يدي الآية: الدعوة إلى الله فرض عينٍ
القرآن الكريم وما صحّ من السنة منهج كامل، يقتضي من المسلم أن ينفذ بنوده كلها. وكل أمر في القرآن الكريم، والسنة الصحيحة يقتضي الوجوب. ولا تَفْهم من الآية أن بعض الظروف تدفعك إلى أن تهتم بنفسك فقط، وتدع أمر العامة، ومن ذلك أن اليهود آمنوا ببعض الكتاب، وكفروا ببعضه، وكان ذلك سبب هلاكهم.
إنّ الدعوة إلى الله فرض عين في حدود ما تعرف ومع من تعرف. فلو سألت نفسك لماذا تصلي، فسيكون الجواب: لأن الله أمرك بالصلاة. وهذا أمر من بين عشرات ألوف الأوامر المتنوعة الشمولية، التي تدور معك في كل حياتك، بدءًا من فراش الزوجية وانتهاءً بالعلاقات الدولية. والدعوة إلى الله فرض عين، والتواصي بالحق كالدعوة إلى الله فرض عين، ورُبْع النجاة سببه التواصي بالحق، قال تعالى: "وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)" (العصر: 1 – 3).
واتباع رسول الله يقتضي أن تدعو الناس على بصيرة، ولن تنجو إلا بأربعة أشياء: أن تتعرف على الله، وتطبق منهجه، وتدعو إليه وتصبر على معرفته، وتطبق أمره، قال تعالى: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ" (النحل: 125).
والذي لا يدعو إلى الله على بصيرة ليس متبعًا لرسول الله، ولأنه لا يتبع رسول الله، فهو لا يحب الله، قال تعالى: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي" (يوسف: 108)، وقال تعالى: "قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31)" (آل عمران: 31). وقال صلى الله عليه وسلم:
(بلغوا عني ولو آية)
(أخرجه أحمد والبخاري والترمذي).
وقد دعا الإسلام إلى الجهاد بأنواعه. ومن لم يجاهد أو يحدث نفسه بالجهاد مات على ثلمة من النفاق. ومن أنواع الجهاد: جهاد النفس والهوى، والجهاد الدعوي، والجهاد البنائي، ببناء نفسك، وتطوير اختصاصك، لتكون قويًا في خدمة المسلمين، والجهاد القتالي، والجهاد الإلكتروني، لتدمير مواقع العدو.
قال تعالى: "وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)" (الفرقان: 52). ويكون الجهاد بتعليم الناس القرآن، أو سنة النبي العدنان، والدعوة إلى الله في حدود ما تعلم، ولست مكلفًا فوق ذلك، قال الله عز وجل: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ" (آل عمران: 104) و(من) هنا للتبعيض؛ أي على بعضكم أن يتفرغوا، وأن يتعمقوا وأن يبدعوا، ويتمكنوا من إيضاح أية قضية في الدين، والرد على أية شبهة، وهذه مهمة كبار العلماء.
والدعوة إلى الله فرض عين على المسلم، وفرض كفاية، إذا قام بها بعضهم سقطت عن الكل. إذًا هناك دعوة إلى الله كفرض عين، فلو تأثرت تأثرًا بالغًا بدرس ديني، وأخذت شريط التسجيل لتقدمه لصديقك، فهذه دعوة، فليس شرطًا أن تحدثه أنت. ولو أتيت به إلى المسجد فهذه دعوة، ولو قدمت له كتيبًا صغيرًا تأثرت به، فهذه دعوة، ولو حاورته في شأن من شؤون الإسلام فهذه دعوة، ولو خدمته تمهيدًا لتأليف قلبه، فهذه دعوة.
المعنى الإجمالي:
يا أيها المؤمنون عليكم أنفسكم، كملوها بالعلم والعمل، وأصلحوها بالقرآن والسنن، وانظروا فيما يقربها إلى الله حتى تكونوا في رفقة الأنبياء والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، وبعد هذا لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، لا يضركم شيء إذا قمتم بما عليكم من واجبات، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكرات؛ لأن الله تعالى يقول: "وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" (الأنعام:164)، ثم إلى الله وحده المرجع والمآب، وسيجازي كلا على عمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
وتدل الآية: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (المائدة: 105) على معنيين: الأول: على الإنسان أن يحمل نفسه على معرفة الله، وطاعته والدعوة إليه، والجهاد في سبيله. عن قيس ابن أبي حازم رحمه الله قال: قال أبو بكر بعد أن حمد الله وأثنى عليه: "يا أيها الناس: إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها، عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم، وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
إنَّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب"
(سنن أبي داود).
ومن تسلّح بالإيمان فلن يستطيع الضالّ أن ينال منه، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ" (المائدة: 105)، فإن عرَّفتم نفسكم بربها، وحملتم نفسكم على طاعته، فلن يستطيع الأعداء أن ينالوا منكم. والضال ولو كان قويًا فإنه لا يستطيع أن ينال منكم، لأنكم تسلحتم بسلاح الإيمان، والإيمان قوة، قال تعالى: "إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ" (محمد: 7)، وقال: "وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ" (الأنفال: 10).
ولا يستطيع العدو أن ينال منا إذا عرفنا ربنا، وطبقنا منهجه، وحملنا أنفسنا على مجاهدة النفس والهوى، وعلى الدعوة إلى الله، وعلى بناء النفس، وعلى الإعداد للعدو.
والمعنى الآخر للآية الكريمة: عليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة إذا انتشر الفساد. ومعظم المسلمين إذا قرؤوا هذه الآية يفهمونها فهمًا آخر، يتعلق بآخر الزمان إذا عمّ الفساد في الأرض، وأصبحت المادة هي كل شيء، قال صلى الله عليه وسلم:
(إذا رأيت شحًا مطاعًا، وهوىً متبعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فالزم بيتك، وأمسك لسانك، وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة)
(أخرجه الإمام الترمذي وأبو داود)، ومعنى شحًا مطاعًا، أي مادية مقيتة، حين يبيع الواحد دنياه بآخرته، ويبيع دينه، ويتبع الهوى، ويصبح الجنس شغل الناس الشاغل، ويعجب كل ذي رأي برأيه. فالكبر والشهوة والمادية المقيتة تسيطر على الناس، وتوجه سلوكهم في آخر الزمان؛ يوم يذوب قلب المؤمن في جوفه مما يرى، ولا يستطيع أن يغيِّر، إن تكلم قتلوه، وإن سكت استباحوه. تطهير عرقي لا يدري القاتل لمَ يقتل، ولا المقتول فيما قُتل، قال صلى الله عليه وسلم:
(موت كقعاص الغنم)
(الجامع الصغير عن معاذ بسند صحيح). وفي آخر الزمان: إذا وُسِّدَ الأمر لغير أهله فلينتظر الإنسان الساعة. ومن أشراطها أن الناس يلهثون وراء الجنس، فثمة خيانات زوجية، وانحرافات، واختلاط، تشيعها في عباد الله هذه الصحون اللاقطة، التي هي أخطر من غزو الأعداء، فهي غزو داخلي، وثقافي، يستهدف محو الهوية، والعبث بطاقات الشباب الذين يأخذهم اتجاهان متطرفان: تطرف يبلغ بهم حدّ التشدد، وتطرف إباحية وإلغاء القيم. قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
"وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاؤكم، وأمركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها"
(رواه الترمذي) ومن علامات آخر الزمان:
"يوم يكون المطر قيظًا والولد غيظًا ويفيض اللئام فيضًا ويغيض الكرام غيضًا"
(رواه ابن أبي الدنيا).
وهناك أشراط للساعة؛ صغرى وكبرى. ومعظم الأشراط الصغرى تحققت، وعلى كل إنسان في هذا الوضع الصعب أن ينجو بنفسه إن نصح الآخرين ولم ينتصحوا، فيكتفي بنفسه ومن حوله، وعليه بخاصة نفسه، وترك أمر العامة. وخاصة النفس هم: جيرانك، وإخوان مسجدك وزملاء عملك، وأصدقاؤك، وأقرباؤك. وهذا هو معنى خاصة نفسك ودع عنك أمر العامة.
وإذا كان الناس في ضلال وضياع، غارقين في الشهوات، وأكل المال الحرام، والعدوان على أموال بعضهم بعضًا، وأعراض بعضهم بعضًا، وإذا كان الأمر كذلك ونصحتهم ولم ينتصحوا، فعليك بخاصة نفسك؛ أي انجُ بنفسك.
هل يعني ذلك أن أتقوقع في البيت ولا أعمل؟ ليس هذا هو المعنى المراد من "خاصة نفسك"، بل عليك إن جلست مع الناس، ومكنك الله أن تؤثر فيهم، وأن تعرض أفكارك عليهم، وكانوا يتقبلون منك ذلك، أن تدعوهم إلى الله. وإن رأيت نفسك تميل إليهم، وإلى أن تسلك سلوكهم، وأغروك بمعصية، أو بتقصير، أو بشيء لا يرضي الله، فإياك والاقتراب منهم. فالمقياس هو: إن استطعت أن تشدهم إليك فكن معهم، وإلا فابتعد عنهم، وانجُ بنفسك.
قال علماء التفسير: تلقون بأيديكم إلى التهلكة إذا أنفقتم كل أموالكم، وتلقون بأيديكم إلى التهلكة إن لم تنفقوا شيئًا. وعلى كل إنسان أن يفكر بأن يقدّم للآخرين ما يشدهم إلى الله عزّ وجلّ. وإذا لم يفكر الإنسان في أن يقدم شيئًا لأخيه الإنسان، بأن يأخذ بيده إلى الله، فالمشكلة خطيرة، فإن لم تفعل فقد خسرت ربع النجاة الآية الكريمة: "وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ" (العصر: 1 – 3).
والخلاصة:
أن السلف متفقون على أن المسلم يكمل نفسه بالعمل، ويكمل غيره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن هذا فرض لا يسقط إلا إذا اضمحل الزمان وفسد الناس فسادا يؤدي إلى إيذاء الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر إيذاءً يهلكه، والرأي والله أعلم: أن الله يخاطب الجماعة في مقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ" (آل عمران:104)، وهنا لا يضركم من ضل إذا اهتديتم.
هذه الجماعة لا يضرها أبدا إيذاء ما دامت متحدة متمسكة بدينها داعية إلى الخير آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، فإن سقوط الأمر بالمعروف أو خوف الفرد من هلاكه في زمن من الأزمان والحمد لله لم يحصل بعد فلا يسقط عن الفرد ولا عن الجماعة، فعلى الفرد عدم الخوف وكذلك على الجماعة.
حقيقة أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يكون عسيرا على الفرد بعمله الفردي، ولكنه على الجماعة يؤدي إلى تقوية السناد بكثرة الأفراد الصالحين، وهو طريق الإصلاح والخير، وليس أجدى على الأمة من أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ففيها الخير إلى قيام الساعة.
ما يستفاد من الأيات:
1- وجوب إصلاح المؤمن نفسه وتطهيرها من آثارها الشرك والمعاصي، وذلك بالإيمان والعمل الصالح.
2- ضلال الناس لا يضر المؤمن إذا أمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر.
3- تقرير مبدأ البعث والجزاء يوم القيامة.
4- للعمل أكبر الأثر في سعادة الإنسان وأشقائه.
5- تضمنت الآية الوعد والوعيد بجزاء كل بعمله، وذلك في قوله تعالى "إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" .