نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الرابع عشر (في حرمة اتخاذ البطانة من غير المؤمنين، وبيان أثرها السيئ)

نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الرابع عشر (في حرمة اتخاذ البطانة من غير المؤمنين، وبيان أثرها السيئ)
420 0

الوصف

نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الرابع عشر (في حرمة اتخاذ البطانة من غير المؤمنين، وبيان أثرها السيئ)

النداء الرابع عشر:

في حرمة اتخاذ البطانة من غير المؤمنين والنهي عن الثقة بالكفار

قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتِّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ" (آل عمران: 118).

موضوع الآية: النهي عن الثقة بالكفار وإطلاعهم على الأسرار (موقفهم الثابت من المؤمنين).

المفردات:

"بِطَانَةً" : بطانة الرجل خاصته الذين يطلعهم على أسراره، مأخوذة من بطانة الثوب, وهي القماش الرقيق الذي يبطن به الثوب من الداخل.

"مِّن دُونِكُمْ" : من غيركم.

"لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا": أي لا يقصرون لكم في الفساد.

"خَبَالًا" : أي فسادًا وضررًا.

"وَدُّوا" : تمنوا.

"مَا عَنِتِّمْ" : أي إيقاعكم في العنت، وهو الهلاك والمشقة وشدة الضرر.

"قَدْ بَدَتِ": أي ظهرت.

"الْبَغْضَاءُ": أي العداوة لكم.

"مِنْ أَفْوَاهِهِمْ" : بالوقيعة فيكم وإطلاع المشركين على سركم.

 "وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ": من العداوة.

سبب النزول:

أخرج ابن جرير الطبري وابن إسحاق عن ابن عباس قال: كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من يهود، لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية فأنزل الله فيهم ينهاهم عن مباطنتهم تخوف الفتنة عليهم "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ".

المناسبة بين الآيات وما قبلها:

كانت الآيات السابقة في بيان: صفات الكافرين من أهل الكتاب والمشركين، وعقوباتهم في الآخرة، وفي بيان أحوال المؤمنين، وثوابهم. وهذه الآيات تحذير للمؤمنين من عقد الصلات والصداقات العميقة مع الكافرين والمنافقين؛ لأنها تؤدي إلى تسرب الأسرار والاطلاع على أحوال المسلمين، مما تقضي المصلحة بكتمانة، ويؤدي إلى مخاطر تؤثر على كيان الأمة الإسلامية، وهذا التحذير في غاية الحكمة والتعقل وحماية المصالح العامة العليا، شأن كل أمة لا تأتمن على أسرارها إلا خواصها- ولا يصح أن تكون القرابات والصدقات والعهود والمحالفات والجوار والرضاع والمصاهرة وغيره ذلك سببا في توطيد الصلات والثقة بالأعداء.

المعنى الإجمالي:

اذكر أيها القارئ الكريم أن من أسرار نداءات الرحمن في كتابه للمؤمنين به وبلقائه، إنذارهم وتحذيرهم من كل ما يُرْدِيهم أو يُشْقِيهم. وها هو تعالى هنا يناديهم ليمنعهم ويحرم عليهم اتخاذ بطانة من غير المؤمنين كاليهود، والنصارى، والمشركين، يطلعونهم على بواطن أمورهم، وأسرار دولتهم وبخاصة الأسرار الحربية والمالية، فإن في هذا خطرا عظيما على الدولة المسلمة، قد يؤدي بها إلى التلاشي بعد الفرقة والهزيمة، والعياذ بالله من كل شر وسوء يصيب الإسلام وأهله ودولته.

 فلنتأمل قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ" فالبطانة من يطلع على بواطن الأمور وخفاياها، ومن دوننا هم قطعا الكفار، وسواء كانوا أهل كتاب أو مشركين. 

ولنتأمل قوله: "لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا" أي لا يقصرون في إفساد أموركم عنكم بشتى الوسائل تحت شعار العلم والمعرفة، أو النصح والتوجيه. 

ولنتأمل قوله تعالى: "وَدُّوا مَا عَنِتِّمْ" أي أحبوا حبا عظيما كل ما يوقعكم في العنت والمشقة، حتى تحرموا سعادة الدنيا وهناءها وتصبحوا عالة عليهم، ومحتاجين إليهم لتذلكم الحاجة، وتهينكم بين أيديهم. 

ولنتأمل قوله تعالى: "قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ" أي قد ظهرت البغضاء وهي شدة بغضهم لكم لأنكم مسلمون وهم كافرون. وقال بأفواههم ولم يقل بألسنتهم: إشارة إلى أنهم إذا تكلموا لكم ناصحين ومعلمين يتشدقون بالكلام، فتمتلئ أفواههم به إظهارا للرغبة في نفعكم وخيركم، والمتأمل الواعي البصير يعرف هذا من كلامهم، وما تخفي صدورهم من التغيظ عليكم والبغض لكم أكبر مما يظهر من كلامهم، 

ولنتأمل قوله تعالى: "قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ" فلننظر، فتتجلى لنا نعمة الرحمن الرحيم بعباده المؤمنين، إنها منته تعالى علينا، حيث منعنا من اتخاذ البطانة من غيرنا صرفا للشر والأذى عنا، وإبقاء على نورنا وهدايتنا وكرامتنا. 

إنه يعقب على نعمة البيان والهداية بقوله: "قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآَيَاتِ" الكاشفة لنا عن مخبئات أعدائنا لنا من الحسد والكره والغيظ والبغض. إن كنا نعقل عنه سبحانه وتعالى ما ينزله علينا ويخاطبنا به إكراما منه لنا فلله الحمد والمنة. ألا فليعلم هذا كل مسئول في دولة الإسلام وليعمل به ولا يعرض عنه ولا يتنكر له، فإنه المناعة التامة للحفاظ على دولة الإسلام وقوتها وامتداد ظلها في العالمين.

ولنورد أخيرا ما يثبت به ما بيناه من هداية هذه الآية الكريمة الحاملة للنصيحة والتوجيه الرباني لأمة الإسلام، فهذا البخاري يروي في صحيحه تعليقا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كان له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله"، من هنا وجب على كل من ولي أمر المسلمين أن يعرف هذا ويحذر من بطانة السوء فلا يقبل اقتراحاتها ولا توجيهاتها، ويقبل ما تقدمه البطانة الصالحة ويشكرها عليه ويقربها منه ويدنيها إليه. وهذا عمر- رضي الله عنه- قال له أحد رجاله: إن ها هنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب ولا أخط بالقلم منه أفلا يكتب عنك؟ فقال: لا آخذ بطانة من دون المؤمنين.

وجاء أيضا أبو موسى الأشعري بحسَّاب نصراني لعمر –رضي الله عنه- فانتهره وقال: لا تُدْنِهم وقد أَقْصَاهم الله، ولا تُكْرِمْهُم وقد أهانهم الله، ولا تأمنهم وقد خونهم الله.

قل لي أيها المؤمن أَبَعْدَ هذا يجوز اتخاذ بطائن من أهل غير الإسلام، يطلعون على بواطن أمور الدولة والأمة؟ والجواب: لا، وليس معنى هذا أن لا نستخدم غير المؤمنين إذا دعت الحاجة إلى استخدامهم، وإنما لا نطلعهم على بواطن أمورنا، ولا نضعهم في مقاعد التكريم والإكبار والإجلال ونترك أهل العلم والإيمان.

ما يستفاد من الآية:

أرشدت الآية إلى أربعة أمور:

1- تأكيد الزجر عن الركون إلى الكفار، وذلك للآية السابقة "إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ" (آل عمران:100) الآية.

2- نهي المؤمنين أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء مستشارين أمناء في إبداء الآراء المهمة وإسناد الأمور الخطيرة في الدولة إليهم- أما اتخاذ أهل الكتاب كتبة وموظفين في أعمال الحكومة مما لا يتصل بالقضايا الحساسة للدولة فيظهر من عمل الخلفاء أنه لا مانع منه، روى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، فالمعصوم من عصم الله تعالى".

3- دل قوله تعالى: "مِّن دُونِكُمْ" أي من سواكم، على أن النهي موجه إلى استعمال غير المسلمين بطانة ذكرتها الآية، وهي قوله "لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا" الآية.

4- في هذه الآية دليل على أن شهادة العدو على عدوه لا تجوز، وبذلك قال أهل المدينة وأهل الحجاز، وروي عن أبي حنيفة جواز ذلك.