نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الحادي عشر (في مشروعية كتابة الديون والإشهاد عليها)

نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الحادي عشر (في مشروعية كتابة الديون والإشهاد عليها)
484 0

الوصف

نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الحادي عشر (في مشروعية كتابة الديون والإشهاد عليها)

النداء الحادي عشر

في مشروعية كتابة الديون والإشهاد عليها

قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" (البقرة:282).

موضوع هذه الآية:

مشروعية كتابة الديون وتوثيق المبايعات المؤجلة والدين والسلم والإشهاد عليها، حماية وصيانة للمال الذي هو قوام الحياة عن الضياع، وحفاظا على الود والإخاء والصفاء بين المسلمين في معاملاتهم إذا اتبعوا شرع الله وحكموه في جميع شؤون حياتهم الدينية والدنيوية في عباداتهم ومعاملاتهم.

المفردات:

"تَدَايَنتُم" : داين بعضكم بعضا في شراء أو بيع أو سلم أو قرض، والدين هو الذي يثبت في الذمة.

"إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى" : وقت محدود بالأيام أو الشهور أو الأعوام.

"بِالْعَدْلِ" : بلا زيادة ولا نقصان ولا غش ولا احتيال، بل بالحق والإنصاف.

"وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ" : لأن الإملاء اعتراف منه، وإقرار بالذي عليه من الحق.

"وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا" : أي لا ينقص من الدين الذي عليه شيء ولو قل.

"سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا" : السفيه الذي لا يحسن التصرفات المالية والضعيف العاجز عن الإملاء كالأخرس أو الشيخ الهرم.

"وَلِيُّهُ" : من يلي أمره ويتولى شؤونه لعجزه وقصوره.

"مِن رِّجَالِكُمْ" : أي المسلمين الأحرار دون العبيد الكفار.

"أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا" : تنسى أو تخطئ لقصر إدراكها.

"وَلاَ تَسْأَمُوا" : أي لا تضجروا أو تملوا من الكتابة، ولو كان الدين صغيرا مبلغه.

"أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ" : أعدل في حكم الله وشرعه.

"وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ" : أثبت لها وأكثر تقريرا؛ لأن الكتابة لا تنسى والشهادة تنسى أو يموت الشاهد أو يغيب.

"وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا" : أقرب أن لا تشكوا بخلاف الشهادة بدون كتابة.

"تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ" : أي تتعاطونها، البائع يعطي البضاعة والمشتري يعطي النقود، فلا حاجة إلى كتابتها ولا حرج أو إثم يترتب عليها.

"وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ" : إذا باع أحد أحدًا سلعة: دارًا أو غيره يشهد على ذلك بيع.

"وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ" : بأن يكلف ما لا يقدر عليه بأن يدعى ليشهد في مكان بعيد يشق عليه، أو يطلب إليه أن يكتب زورا أو يشهد عليه.

"وَإِن تَفْعَلُوا" : ما نهيتم عنه.

"فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ" : أي خروج عن طاعة ربكم، لاحق بكم إثمه، وعليكم تبعته يوم القيامة.

"وَاتَّقُوا اللهَ" : باتباع أوامره، واجتناب نواهيه، وكما علمكم هذا يعلمكم سبحانه كل ما تحتاجونه، فاحمدوه بألسنتكم، واشكروه بأعمالكم، وسيجزيكم بها، وهو بكل شيء عليم.

مناسبة الآية لما قبلها:

المال عصب الحياة، فلابد من صيانته وحفظه عن الضياع، فقد أمر الله تعالى بذلك بالكتابة والإشهاد، ونحو ذلك، وكون هذه الآية أطول آية في كتاب الله دليل واضح على ذلك، ولما بين الله سبحانه وتعالى الآيات السابقة حكم التعامل بالربا وتحريمه ومنعه، ذكر سبحانه في هذه الآية بيان حال الدنيا الواقعة في المعاوضات الجارية بين الناس ببيع السلع بالدين المؤجل بطريقة تحفظ الأموال وتصونها من الضياع، قال تعالى: "وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا" (النساء:5).

سبب نزول الآية:

قال ابن عباس رضي الله عنه: هذه الآية نزلت في السلم خاصة، معناه أن سلم أهل المدينة كانت سبب الآية، ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعا.

تعريفات:

(السلم): بيع آجل بعاجل، ويقال له: السلف، غير أن السلم خاص به، والسلف يطلق على القرض.

(الدين): كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا والآخر في الذمة أي نسيئة.

من النكت البلاغية

قيل في تكرار لفظ الجلالة في جملة قوله "وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" قيل لتربية المهابة في النفس وتعظيم الأمر، وفي قوله سبحانة: "وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ" (البقرة:283) الجمع بين لفظ الجلالة والوصف بالربوبية للمبالغة في التحذير.

بين يدي الآية:

اعلم أيها القارئ الكريم أن المال قوام الأعمال. واسمع قول الله تعالى فيه: "وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا" إذ حرم إعطاء المال لغير الراشدين كالنساء والأطفال وقاصري العقول وعادمي البصيرة في التصرف المالي، فإذا عرفت هذا فهيا بنا نشرح آية الدين ونبين ما احتوت عليه من أحكام تتعلق بالديون، الأخذ بها بعد معرفتها يحفظ على المسلم ماله ويصون كرامته.

وآية الدين أطول آية في كتاب الله، مما يدل على أن المال ذاته ليس مكروها عند الله، لا سيما إذا أخذ من حلال ووضع في حلال، بل قال صلى الله عليه وسلم : "نعم المال الصالح في يد الرجل الصالح".

فلقد احتوت هذه الآية على إرشاد الباري عباده في معاملاتهم إلى حفظ حقوقهم بالطرق النافعة والإصلاحات التي لا تصل العقول إلى أعلى وأكمل منها.

مع الحرص على الحفاظ على وَشَائِجِ الْوُدِّ والصلة والمحبة وإصلاح ذات البين بين الناس، ومنع وقوع التنازع المؤدي إلى فساد علاقات الناس بعضهم مع بعض، سواء أقرباء أو غيرهم، وسد كل المنافذ أمام الشيطان الذي قد يسول للمدين جحود الحق، وتجاوز ما حد له الشرع، أو ترك الاقتصار على المقدار المستحق.

المعنى الإجمالي:

احتوت هذه الآية الكريمة على أحكام تتعلق بالديون، الأخذ بها والعمل بها كفيل بإذن الله أن يحفظ المسلم ماله ويصون كرامته، ومنها:

أولــا: كتابة الدين إذا كان مؤجلا، لقوله سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ".

ثـانـيـــا: مشروعية بيع السلم، إذ قوله "إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى" دال عليه، وبيع السلم هو أن يبيع العبد أخاه تمرا أو قمحا إلى أجل، فيأخذ البائع الثمن ويدفع السلعة عند حلول الأجل على شرط أن يكون السلم معلوم الكيل أو الوزن، لقوله صلى الله عليه وسلم : "من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم".

ثـــالثــا: أن يكتب الدين وأن على الكاتب أن يعدل فيما يكتب، فلا يزيد ولا ينقص ولا يبدل ولا يغير، لقوله تعالى: "فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ".

رابعـــا: أن من يحسن الكتابة إذا احتيج إليه ليكتب بين متداينين وجب عليه أن يكتب، لقوله تعالى: "وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ" أي شكرا لله تعالى على تعليمه الكتابة.

خامـسا: أن الذي يملي على الكاتب هو الذي عليه الحق ليكون إملاؤه اعترافا بالحق، وتقريرا له، لقوله تعالى: "وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ" كما نهاه أن ينقص من الدين شيئا، قال تعالى: "وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا".

سادسـا: إن كان الذي عليه الحق قاصرا لسفه أو خوف فليملل وليه بالعدل أي بالقسط، بلا زيادة في الدين ولا نقص منه.

سابعـا: الإشهار والإشهاد على صك الكتابة، ويشهد رجلان، فإن تعذر وجود رجلين، فرجل وامرأتان، قال تعالى "وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ".

ثامنـا: حرمة رفض الشهود الشهادة إذا دعو إليها، وتوقف حق المرء على شهادتهما، قال تعالى: "وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا" أي لأداء الشهادة.

تاسعا: الحث على كتابة الدين قليلا كان أو كثير، قال تعالى: "وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ" .

عاشرا: العفو عن عدم الكتابة في التجارة الحاضرة، كان يشتري المرء تمرا أو غيره على أن يسدد الثمن بعد يوم أو أيام مثلا، فإنه لا يتعين كتابة هذا الدين.

الحادي عشر: وجوب الاشهاد على البيع، فمن باع دارا أو غيره فليكتب ويشهد على الكتابة، لقوله تعالى: "وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ" .

الثاني عشر: أن لا يضار كاتب ولا شهيد، كأن يدعى الكاتب أو الشاهد إلى مكان بعيد أو إلى وقت يعطل فيه عمله أو يضيع في حقوقه، قال تعالى: "وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ" ومن الإضرار بالكاتب والشهيد أن يطلب إليهم أن يكتبوا باطلا أو يشهدوا زورا.

الثالث عشر: الأمر بتقوى الله ووعد الله تعالى للمتقين بأن يعلمهم ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم بما يؤتيهم من نور في قلوبهم، يفرقون به بين الحق والباطل والرابح والخاسر، لقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا" (الأنفال: 29).

ما يستفاد من الآية:

1- وجوب كتابة الديون، سواء كانت بيعا أو شراء أو سلفا أو قرضا، هذا ما قرره ابن جرير، ورد القول بالإرشاد والندب.

2- رعاية النعمة بشكرها، لقوله تعالى للكاتب، "كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ" (البقرة: 282) فكم من محروم من التعليم والكتابة.

3- جواز النيابة في الإملاء للعجز عنه وعدم القدرة.

4- وجوب العدل والإنصاف في كل شيء، لا سيما في كتابة الديون المستحقة المؤجلة.

6- شهود المال لا يقلون عن رجلين عدلين من الأحرار المسلمين لا غير، والمرأتان المسلمتان اللتان فرض شهادتهما تقومان مقام الرجل الواحد.

7- الحرص على كتابة الديون والعزم على ذلك، ولو كان الدين صغيرا تافها.

8- الرخصة في عدم كتابة التجارة الحاضرة السلعة والثمن، المدارة بين البائع والمشتري.

9- وجوب الإشهاد على بيع العقارات والمزارع والمصان مما هو ذو بال.

10- حرمة الإضرار بالكاتب والشهيد.

11- تقوى الله تعالى تسبب العلم والمعرفة بإذن الله.

فوائد مهمة تتعلق بالآية:

1- شهود المال لا يقلون عن اثنين، وأما شهود الزنا فهم أربعة لا يقلون عنها.

2- لا يشهد الصغير ولا العبد المملوك.

3- إن وجد شاهد فقط تتم الشهادة باليمين.

4- خير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها، للحديث في ذلك. 5- أول من جحد آدم فجحدت ذريته، لذا شرع الله الكتابة في البيوع والديون لحديث أبي داود.