نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الثامن (في بيان مبطلات ثواب الصدقة كالمن والأذى والرياء)

نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الثامن (في بيان مبطلات ثواب الصدقة كالمن والأذى والرياء)
503 0

الوصف

نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الثامن (في بيان مبطلات ثواب الصدقة كالمن والأذى والرياء)

النداء الثامن:

في بيان مبطلات ثواب الصدقة كالمن والأذى والرياء

قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" (البقرة:264).

شرح الكلمات:

"لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم" : الحرمان من ثوابها.

"بِالْمَنِّ": ذِكْر الصَّدَقَة على مَعْنَى التعداد لمن تَصَدَّقَ بها عليه على وجه التفضل عليه، ويدخل في ذلك التحدث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المعطى فيؤذيه.

"وَالأذَى" : التطاول على المتصدق عليه وإذلاله بالكلمات النابية، أو التي تمس كرامته، وتحط من شرفه: ويدخل في ذلك التشكي منه، وأنه لا يحفظ المعروف، وهو أعم من المن، وخص المن بالذكر لكثرة وقوعه.

"صَفْوَانٍ": حجر أملس ناعم.

"وَابِلٌ" : المطر الشديد.

"صَلْدًا": أملس ليس عليه شيء من التراب.

"لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ" : أي يعجزون عن الانتفاع بشيء من صدقاتهم؛ لأنها باطلة.

بين يدي الآية

اذكر أيها القارئ الكريم أن سر نداء الله تعالى عباده المؤمنين بعنوان الإيمان هو أن المؤمن حي يسمع ويبصر، ويقدر على الفعل والترك؛ لأن الإيمان الصحيح وهو تصديق الله ورسوله في كل ما أخبر به من شأن الغيب والشهادة هو بمثابة الروح للجسم، فالجسم يتحرك ويقبل ما يراد به ما دامت الروح فيه، فإذا فارقته مات. اذكر هذا أيها القارئ أو السامع لتعي عن الله تعالى ما خاطبك به. وهو نهيه لك عن إبطال صدقاتك، وهو تعطيلها عن تزكية نفسك وتطهيرها؛ لأن الصدقة عبادة تزكي النفس إذا خلت من الموانع المبطلة لها والتي سوف نتناولها فيما يلي.

المعنى الإجمالي

1- المن وهو من كبائر الذنوب؛ لأن المنان أحد ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، لحديث مسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان الذي لا يعطي شيئا إلا منه، والمنفق بالحلف الكاذب" وحقيقة المن أنه ذكر الصدقة وتعدادها على من تصدق بها عليه من المؤمنين على وجه التفضل عليه. والمنان من الناس هو الذي لا يعطي شيئا إلا منه على من أعطاه إياه. فاحذر المن أيها المؤمن، فإنه مبطل لأجر الصدقة، وموجب لغضب الله تعالى.

وقديما قيل:

أَفْسَدْتَ بِالْمَنِّ مَا أَسْدَيْتَ مِنْ حَسَنٍ         لَيْسَ الْكَرِيمُ إِذَا أَسْدَى بِمَنَّانِ

2- الأذى لغة: هو كل ما يؤذي الإنسان في دينه أو عرضه أو بدنه أو ماله، وهو هنا أي الأذى المبطل للصدقات هو التطاول على المتصدق وإذلاله بالكلمة النابية، أو التي تمس كرامته وتحط من شرفه وقدره وهو المؤمن ولي الله تعالى. والله يقول في الحديث الذي رواه البخاري "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب" والمعاداة هي مولدة الأذى وأشده وأقبحه.

3- الرياء وهو أن يُري العبد عمله للناس رجاء أن يحمدوه عليه، أو يدفع به مذمتهم إذا خاف ذلك منهم، وهو في هذه الحال مُراءٍ، والرياء مبطلة للعمل مفسدة له فلا تزكو به النفس البشرية، كالمن والأذى سواء بسواء في إبطال الصدقات لقوله تعالى: "لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ" فالرياء في الصدقات مبطل لها كالمن والأذى، إلا أن الرياء عامة يكون في الصدقات وغيرها من سائر العبادات كالصلاة، والذكر، وقراءة القرآن، والحج، والعمرة، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لذا فهو أخطر من المن والأذى، وغالبا ما يكون الرياء ممن ضعف إيمانه بالله واليوم الآخر لقوله تعالى في الآية: "وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ" إذ المؤمن بالله واليوم الآخر لا يتعمد بطلان عمله بالمراءاة ولا بغيرها. 

وقوله تعالى في الآية "فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ" والصفوان هو الحجر الأملس "عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ" من المطر، وهو المطر الشديد "فَتَرَكَهُ صَلْدًا" أي ليس عليه شيء؛ لأن المطر أزال التراب وبقى الصفوان الأملس كما كان. وقوله تعالى: "لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ" أي ينتفعون به وذلك لعجزهم عن الانتفاع بصدقاتهم بعد أن أبطلها المن والأذى والرياء.

وقيل في ذم الرياء

ثَوْبُ الرِّياَءِ يَشِفُّ عَمَّا تَحْتَهُ         فَإِذَا اكْتَسَيْتَ بِهِ فَإْنَّكَ عَارِ

وقوله تعالى "وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" أي إلى ما يكملهم ويسعدهم في الدنيا والآخرة، وفي هذا إشارة إلى أن المنان والمؤذي للمؤمنين والمرائي هم قريبون من الكفر إن لم يكونوا كفارا لنعم الله، وذلك بترك شكرها وصرفها فيما يحب المنعم عز وجل. ألا فلنحذر أيها المؤمنون كل ما يبطل صدقاتنا بأن تصبح لا تزكي أنفسنا ولا تطهرها، ونحن نعلم حكم الله تعالى في الناس أبيضهم وأسودهم، عربهم وعجمهم، وهو فوز أصحاب النفوس الزكية، وخيبة وخسران أصحاب النفوس المدساة الخبيثة التي لم تطهر بالإيمان وصالح الأعمال، إذ قال تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا(9)وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا"

مايستفاد من الآيات:

1- حرمة المن والأذى في الصدقات وفسادها بها.

2- بطلان صدقة المان والؤذي والمرائي بها.

3- حرمة الرياء، وهو من الشرك الأصغر.

4- الصدقة على ثلاثة أوجه:

الوجه الأول:

ما يبقى أجره للمنفق ويضاعف له، وهو ما قصد به وجه الله، ولم يتبع منا ولا أذى من صاحبه، فهذا مثل صدقته كمثل جنة بربوة أصابها وابل، فآتت أكلها ضعفين، فإن لم يصبها وابل فطل، فمتى كان الإخلاص شديدا والإنفاق كثير وكتمت الصدقة كان كالجنة التي أصابها المطر فتمت غرسها.

الوجه الثاني:

ينفق ماله لله، لكنه يتبعه بالمن والأذى، فهذا أجره وثمرته كمن له جنه زرعها فلما قربت ثمرتها أصابها إعصار فيه نار فاحترقت، وهو أشد ما يكون حاجه إليها.

الوجه الثالث:

أن ينفق ولا يقصد وجه الله، وإنما يقصد المدح والثناء من الناس، فهذا لا يكتب أجره، فمثله كمن يزرع على صفاء أملس صلد، لا ينبت له زرع.