كتاب التفسير والتأويل في القرآن - الفصل الرابع الفرق بين التفسير والتأويل (مع فهم الطبري للتأويل)

الوصف
الفصل الرابع الفرق بين التفسير والتأويل
(مع فهم الطبري للتأويل)
الإمام أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري، المتوفي سنة ثلاثمائة وعشر للهجرة، هو إمام المفسرين والمؤوّلين جميعا.
وتفسيره هو المرجع لكلّ ناظر في القرآن، أو مفسّر له، أو مؤول لآياته. وللإمام الطبريّ فهم واضح للتفسير والتأويل، حيث يعتبرهما مصطلحين بمعنى واحد، فكأنهما مترادفان، يدلان علي شرح آيات القرآن، وبيان معانيها، والكشف عن موضوعاتها وحقائقها.
إن الإمام الطبريّ يستعمل التأويل بمعنى التفسير، ولهذا سمّي تفسيره «جامع البيان عن تأويل آي القرآن».
وكان عند ما يفسر الآية يقول: «القول في تأويل الآية». وعند ما يذكر أقوال العلماء في تفسير الآية يقول: «اختلف أهل التأويل في تأويل الآية».
فالتأويل في كلامه بمعنى التفسير. ولهذا قال في خطبة تفسيره: «ونحن- في شرح تأويله، وبيان ما فيه من معانيه- منشئون إن شاء الله كتابا مستوعبا، لكلّ ما بالناس الحاجة إليه من علمه، جامعا، ومن سائر الكتب غيره في ذلك كافيا.»
وقد عقد الإمام الطبريّ مبحثا في مقدمة تفسيره، جعل عنوانه: «القول في الوجوه التي من قبلها يوصل إلي معرفة تأويل القرآن»، وأراد من هذا المبحث بيان الوجوه التي يستطيع العلماء تأويل القرآن بها، وبيان أقسام القرآن من حيث التأويل.
إنّ الطبري يري أنّ القرآن من حيث التأويل ثلاثة أقسام، بدأها بقوله: ونحن قائلون في البيان عن وجوه مطالب تأويله.
القسم الأول: لا يمكن لعالم تأويله إلا بالاطلاع علي تأويل الرسول صلّى الله عليه وسلّم له.
وقد أورد ثلاث آيات، تدلّ علي أنّ الله أوكل لرسوله صلّى الله عليه وسلّم مهمة بيان القرآن وتأويله، ثم قال: «إنّ مما أنزل الله علي نبيه صلّى الله عليه وسلّم، ما لا يوصل إلي علم تأويله إلا ببيان الرسول صلّى الله عليه وسلّم».
وذلك تأويل جميع ما فيه: من وجوه أمره ونهيه، ووظائف حقوقه وحدوده، ومبالغ فرائضه ... وما أشبه ذلك من أحكام آياته، التي لا يدرك علمها إلا بالبيان الذي قدّمه الرسول صلّى الله عليه وسلّم لأمته.
وهذا الوجه لا يجوز لأحد القول فيه، إلا ببيان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتأويله، وذلك بالاطلاع علي بيان الرسول عليه الصلاة والسلام.
القسم الثاني: تأويله خاصّ بالله الواحد القهار، ولا يعلمه أحد من الناس. وهو ما في القرآن من الخبر عن آجال حادثة، وأوقات آتية، كوقت قيام الساعة، والنفخ في الصور، ونزول عيسي بن مريم، وما أشبه ذلك.
فإنّ تلك الأوقات لا يعلم أحد حدودها، ولا يعرف أحد من تأويلها إلا الخبر بأشراطها. لأن الله استأثر بالعلم بها، ولم يطلع عليها أحدا من خلقه.
قال تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ، أَيَّانَ مُرْساها، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي، لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ، ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ والْأَرْضِ، لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً، يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ، ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) وكان نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم إذا ذكر شيئا من ذلك القسم، لم يدلّ عليه إلا بأشراطه، دون تحديده بوقته، فلما ذكر عليه الصلاة والسلام الدجال، لم يحدّد وقت خروجه، لعدم علمه بذلك الوقت، واكتفي بتحذير أصحابه قائلا: «إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم، فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي علي كل مسلم».
فهذا يدلّ علي أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يكن عنده علم أوقات أشياء تحدث في المستقبل، بمقادير السنين والأيام، لأن هذا خاصّ بالله.
القسم الثالث: يعلم تأويله كلّ ذي علم باللسان العربي الذي أنزل الله به القرآن. وذلك مثل: إقامة إعراب القرآن، ومعرفة المسميات المذكورة في القرآن بأسمائها اللازمة لها، والموصوفات بصفتها الخاصة بها، فإنّ ذلك لا يجهله أحد منهم. فلو أنّ سامعا من العرب سمع قول الله تعالى: (وإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ ولكِنْ لا يَشْعُرُونَ). لم يجهل أنّ معنى الإفساد هو كلّ ما فيه مضرة، مما ينبغي تركه، ومعنى الصلاح هو كلّ ما فيه منفعة، مما ينبغي فعله، وإن جهل المعاني التي جعلها الله إفسادا، والمعاني التي جعلها الله إصلاحا.
فالذي يعلمه ذو اللسان العربي من تأويل القرآن هو ما وصفت، من معرفة أعيان المسميات بأسمائها اللازمة، والموصوفات بصفاتها الخاصة.
ولا يعلم الواجب من أحكام الآيات وصفاتها وهيآتها التي خصّ الله نبيّه بعلمها، فلا يدرك علمها إلا ببيانه عليه الصلاة والسلام. كما لا يعلم تأويل ما استأثر الله بعلمه دون خلقه.
ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: التفسير علي أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها. وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله.
والوجه الرابع الذي ذكره ابن عباس، من أنّ أحدا لا يعذر بجهالته، هذا لا حاجة للبيان عن وجوه تأويله، لأنه لا يجوز لأحد الجهل بتأويله وخلاصة كلام ابن جرير الطبري أنه يقسم القرآن من حيث إمكانية تأويله وتفسيره أقساما ثلاثة:
القسم الأول: لا يعلم تأويله إلا الله، ومثّل له بتحديد أوقات ومقادير وسنوات وكيفيات أحداث قادمة ستقع عند قيام الساعة، وهذا هو التأويل العملي، الذي يلحظ مآل وعاقبة ونهاية تلك النصوص، ويركز علي حقيقتها المادية، وكيفيتها الفعلية.
القسم الثاني: هو الذي أوله وفسّره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهي آيات الأحكام، وما فيها من أوامر أو نواه، أو حدود وأركان وشروط، وذلك كأوقات الصلاة وركعاتها وأركانها وسننها.
ويوجب علي علماء التأويل الاطلاع علي ما بينه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والأخذ به، وعدم مخالفته.
القسم الثالث: وهو ما ترك تأويله وتفسيره لعلماء التأويل، حيث يقفون أمامه متدبرين ناظرين مفسّرين مؤوّلين، كإعراب القرآن وشرح بيانه وبلاغته، وشرح معانيه.
ولئن منع العلماء من الخوض في تأويل القسم الأول الخاصّ بالله، ولئن ألزموا بالأخذ بتأويل الرسول صلّى الله عليه وسلّم للقسم الثاني وعدم مخالفته، فإنّ المجال أمامهم واسع مفتوح في القسم الثالث، فبإمكانهم أن يقفوا أمامه، وأن يخوضوا فيه، إذا توفرت فيهم الشروط والمؤهلات العلمية لذلك.
ثم إنّ القسم الثالث المخصص لعلماء التأويل كثير في القرآن، بل إن غالب ومعظم آيات القرآن من القسم الثالث، بينما آيات القسمين الأول والثاني قليلة بالقياس إلي آيات القسم الثالث.
وأيضا فإن العلماء يعلمون معاني آيات القسم الأول والثاني، ويمكنهم بيانها وشرحها وتفسيرها، لكنهم لا يقدرون علي تأويلها، بمعنى تحديد حقيقتها وكيفيتها ووقتها وصورتها، أو مخالفة ما قاله الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيها.
وبهذا التفصيل من الإمام ابن جرير الطبري في فهمه للتأويل، نختم كلامنا عن الفروق بين التفسير والتأويل.