كتاب القرآن ونقض مطاعن الرهبان-الفصل التاسع نقض المطاعن الفنية (سادساً: ما الذي أخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كتب الحنفاء؟ :)

الوصف
الفصل التاسع نقض المطاعن الفنية
(سادساً: ما الذي أخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كتب الحنفاء؟)
تكلمَ الفادي الجاهلُ عن " الحنفاءِ " كَلاماً باطلاً، دَل على جهلِه وافترائِه، وزَعَمَ فيه أَنَّ هؤلاءِ الحنفاءَ كانوا من الذين عَلَّموا رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.
أ - من هو الحنيف؟ :
من جهل الفادي أنه لم يَعْرِفْ معنى كلمة " حنيف " في اللغةِ العربية، فبَعْدَ أَنْ دكَرَ بعضَ الآياتِ التي وَصفَتْ إِبراهيمَ - عليه السلام - بأَنه حَنيفٌ، كقوله تعالى: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥)) .
ادَّعى الجاهلُ الغبيُّ أَنَ كلمةَ " حَنيف " عبريةٌ وسريانيةٌ وليست عربية.
قال في افترائِه: " وكلمةُ (حنيف) في اللغةِ العبريةِ والسريانيةِ تَعْني " نَجساً " أَو " مُرْتَدّاً "، وُصِمَ بها العربُ الذين هَجَروا عبادةَ الأَصْنام، وارتَدُّوا عن دينِ أَسلافِهم ".
" حَنيف " عند الجاهلِ ليستْ صفةَ مَدْح، بل صفة ذَمِّ، بمعنى: نَجِس، وهي عبريةٌ وليستْ عربية! هكذا يَدَّعي هذا الباحثُ الموضوعيُّ المحايد!!.
علماً أَنَّ الكلمةَ عربيةٌ أَصيلةٌ، ذاتُ جَذْرٍ لغويّ صحيح، ومعنى عربي: واضح مفهوم.
هل الحنيفُ هو النجسُ؟ لِنَنْظُر: قال ابنُ فارس: " الحَنَفُ هو الميْلُ. ورجلٌ أَحْنَف: مائِلُ الرّجْلَيْن. والحَنيفُ: المائل إِلى الدينِ المستقيم.
ويُقال: الحَنيفُ هو النّاسِك، والحَنيفُ هو المستقيمُ الطريقة، وهو يَتَحَنَّفُ. أَيْ: يَتَحَرّى أَقومَ الطَّريق ". وجاءَ في لسانِ العرب: " الحَنيفُ: المسلم، الذي يَتَحَنَفُ عن الأَدْيان، أَيْ: يَميلُ إِلى الحَقّ.
وقيلَ: هو الذي يَستقبلُ قبلةَ البيتِ الحرامِ على ملَّةِ إِبراهيم، على نبيّنا وعليه الصلاةُ والسلام.
وقيلَ: هو المخْلِص، وقيل: هو مَنْ أَسْلَمَ في أَمْرِ الله، فلم يَلْتَوِ في شيء. وقيل: كُلُّ مَنْ أَسْلَمَ لأَمْرِ اللهِ ولم يَلْتَوِ فهو حَنيف. فالحَنيفُ: المستقيم، والحَنَفُ: الاستقامة. والدّينُ الحَنيفُ: الإِسلام.
والحنيفيةُ: مِلَّةُ الإِسلام. وفي الحديث: " بُعِثْتُ بالحنيفيةِ السَّمْحَة ". قالَ الزجاج: الحَنيفُ في الجاهليةِ: مَنْ كانَ يَحُجُّ البيتَ، ويَغتسلُ من الجَنابة، ويَختتن، فلما جاءَ الإِسلامُ كانَ الحنيفُ المسلمَ.
وفي الحديثِ القدسيّ: " خَلَقْتُ عبادي حُنَفاء ". أَيْ: طاهِري الأَعضاء من المعاصي ... ".
الحَنيفُ في اللغةِ العربيةِ هو الطاهرُ وليس النَّجس، وهو المسلمُ وليس المرتَدّ، وهو المستقيمُ على الحَقّ، وليس المنحرفَ عنه، فهو صفةُ مدحٍ وثناء، وليسَ صفةَ ذَم، كما ادّعى هذا الجاهلُ الغبيُّ.
ولذلك جاءَتْ هذه الصفةُ للمدحِ والثناء، وَوُصِفَ بها إِبراهيم - عليه السلام - أَكثرَ من مَرَّة. كما في قولِه تعالى: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) .
وكما في قولِه تعالى: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) وكما في قولِه تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠)) .
ولذلك أَمَرَ اللهُ رسولَه محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَقْتديَ بإِبراهيمَ - عليه السلام -، وأَنْ يكونَ حَنيفاً مثْلَه.
قالَ تعالى: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) . وقال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) .
وأَمَرَ اللهُ كُلَّ عبادِه المسلمين أَنْ يَكونوا حُنَفاء، على اختلافِ زمانِهم أَومكانِهم. قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥)) .
إِبراهيمُ - عليه السلام - حَنيفٌ، ورسولُنا - صلى الله عليه وسلم - حَنيفٌ والنَّجِسُ المرتَدُّ الخبيثُ المفتري هو هذا الفادي المجرمُ، الذي يتلاعَبُ حتى بمعاني الكلمات!.
ب - حول نشأة الحنفاء ونهايتهم:
يواصِلُ الفادي الجاهلُ جَهْلَه، فيتحدَّثُ عن نشأَةِ الحُنَفاء، ويَذْكُرُ أَمْراً ساذجاً مُضْحِكاً، يَدَّعي أَنه نَقَلَه عن السيرةِ النبويةِ لابنِ هشام.
زَعَمَ أَنَّ قُريشاً اجتمعتْ في يومِ عيدٍ لهم، حول صنمٍ من أَصنامِهم، يَعبدونَه ويُعَظّمونه .
فاعتزلهم أَربعةُ نَفَر، وجَلَسُوا يتحدثون فيما بينهم، وهم: وَرَقَةُ بنُ نوفل، وعبيدُ الله بن جحش، وعثمانُ بن الحويرث، وزيدُ بن عمرو بن نفيل.
وقال بعضُهم لبعض: تَعلمونَ أَنَّ قومَكم ليسوا على شيء، وأَنهم تركوا دينَ أَبيهم إِبراهيم، وعبدوا أَحجاراً لا تَضُرُّ ولا تَنفع . وتواصى هؤلاء الأَربعةُ أَنْ يَتَفَرَّقوا في البلدان، للبحثِ عن الدينِ الحق. وزَعَمَ الفادي أَنَّ وَرَقَة بنَ نوفل تَنَصَّر، وأَنَّ عُبيدَ اللهِ بنَ جحشِ بقيَ حائِراً، إِلى أَنْ أَسلمَ ثم تَنَصَّر، وأَنَّ عثمانَ بنَ الحويرث تَنَصَّر، وزيدَ بنَ عمرو اعتزل قَومَه، وطَردوه من مكة، وأَقامَ على جبل حراء".
وهذا كلامٌ باطل، يَدُل على أَنَّ " الحنفاءَ " لم يوجَدوا إِلّا في قريش، قُبيلَ بعثةِ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأَنهم أَربعةُ رجالٍ فقط، انتهى ثلاثةٌ منهم إِلى النصرانية وصاروا نصارى، والرابعُ هو الذي عَلَّمَ محمداً - صلى الله عليه وسلم - القراَن!!
" الحُنَفاءُ " هم: الذينَ لم يُشركوا بالله، ولم يَعْبُدوا الأَصنام، وآمَنوا بالله وحْدَه لا شريكَ له، وبَقوا على دينِ إِبراهيمَ - عليه السلام -، فقد كانوا يَعلمونَ أَنَّ إِبراهيمَ - عليه السلام - كان " حَنيفاً "، ولهذا أَعلنَ كُلُّ واحدٍ منهم أَنه حنيف، يَقْتَدي بإِبراهيم - عليه السلام -، وسُمّوا بالحنفاء.
أَيْ أَنَّ دينَهم كانَ " الحنيفية "، القائمةَ على توحيدِ الله، وعدمِ الشركِ به. وكان هؤلاء قبلَ بعثةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بمئاتِ السِّنين، ولم يتوقَّفْ وجودُ الحنفاءِ في بلادِ العرب منذُ إِسماعيلَ - عليه السلام -، ولم يكونوا في مكةَ وَحْدَها، إِنما كانوا موجودين في مختلفِ بلادِ العرب، كمكةَ والمدينةِ والطائف ونجد واليمن وعُمان وغيرها.
فلم يكونوا مجردَ أَربعةِ رجالِ كما زعم الفادي. وكَذَبَ الفادي المفترِي عندما ادَّعى أَنَّ ورقةَ بنَ نوفل اعتنقَ النصرانية، وذلك في قولِه: " فأَما وَرَقَةُ بنُ نوفل فاستحكَمَ في النصرانية، واتبعَ الكتبَ من أَهلِها، حتى عَلِمَ عِلْماً من علمِ أَهْلِ الكتاب ".
لقد بقيَ وَرَقَةُ على الحنيفية، ولم يَدخلْ في اليهوديةِ ولا في النصرانية، لقد كان قارِئاً كاتِباً، مطَّلِعاً على التوراة، يقرأُ فيها، ويعرفُ النبوةَ والأَنبياء، لكنه لم يَعتنقْ أَيّاً من الديانتَيْن اليهوديةِ والنصرانية.