كتاب القرآن ونقض مطاعن الرهبان-الفصل التاسع نقض المطاعن الفنية (حول التكرار في القرآن)

كتاب القرآن ونقض مطاعن الرهبان-الفصل التاسع نقض المطاعن الفنية (حول التكرار في القرآن)
152 0

الوصف

                                                   الفصل التاسع نقض المطاعن الفنية 

                                                     (حول التكرار في القرآن)

أَثارَ الفادي الجاهلُ إِشْكالاً حولَ التكرارِ في القرآن، تحتَ عنوان " الكلامُ المتكرر "، واعتبرَ هذا الكلامَ عَيْباً وخَلَلاً، وداعياً إلى المَلَل، وقالَ في آخِر اعتراضِه: " ونحنُ نسأل: أَليسَ في هذا التكرارِ عيبُ الخَلَلِ والملل،والبُعْدُ عن ضُروبِ البلاغة؟ " 

اعترضَ على تكرارِ قولِه تعالى: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) في سورة الرحمن، حيث ذُكرت الآيةُ إِحدى وثلاثين مرةً.

وهذا ليسَ تِكراراً في الحقيقة، وإِنما هو " تَنْويعٌ " في العرض، وفَرْق بين التكرارِ والتنويع، فالتكرارُ هو إِعادَةُ الآيةِ أَو القصةِ أَو الموضوعِ مرةً أُخرى، بدونِ إِضافةٍ معلومةٍ أَو جملةٍ أَو كلمة، وبدونِ هدفٍ وغَرَضٍ جَديد.

وهذا التكرارُ عيبٌ في التأليف، وضعفٌ في الأُسلوب، ودليلٌ على الخلل، والتدنّي في البلاغةِ والفصاحة، يُنَزِّهُ الكاتبُ البليغُ كلامَه عنه.

ولذلك نقول: لا تكرارَ في القرآن.

إِنّ الذي في القرآنِ هو التنويع، وذلك بأَنْ يُضيفَ القرآنُ الجديدَ في كُلِّ مَرَّةٍ يُعيدُ فيها ذِكْرَ القصةِ أَو الآيةِ أَو الجملةِ أَو الكلمة، إِما معلومةٌ جديدة، وإِما كلمةٌ جديدة، وإِمّا لهدفٍ جَديد، وإِمّا للتناسبِ مع سياق جديد وهذا ليسَ تكراراً كما زَعَمَ الفادي الجاهل، وإِنما هو تَنويع.

إِنَّ قولَه تعالى: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) قد ذُكِرَ في سورةِ الرحمن إحدى وثلاثين مرةً، ولكنَّ هذه الآيةَ كانت تُذْكَرُ في كُل مرةٍ لهدفٍ جديد،وكانت متناسبةً مع الآياتِ التي سَبَتَتْها، وخاتمةً مناسبةً لها، لأَنَّ سورةَ الرحمن كُلَّها معرضٌ لآلاءِ اللهِ وبعَمِه، وكانت كُلَّما تَذكُرُ بعضَ نِعَمِ الله أَوأَفعالِه أَو الأَدلةِ على وحدانيتِه وعظمتِه تَختمُ ذلك بالآية: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) على اعتبار أَنَّ الموضوعَ الذي تتحدَّثُ عنه هو بعضُ آلاءِ الله.

فهي أَشبهُ ما تكونُ بلازمةٍ شعرية، كتلكَ اللّوازمِ الشعريةِ التي كانَت تُخْتَمُ بها رباعياتُ بعضِ القصائدِ الشعريةِ الموزونة.

ولْنأخذْ على ذلك مثالاً من السورة: ذُكِرَت: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) في آية (١٨) لغيرِ الهدفِ الذي ذُكِرَتْ لأَجْلِه في آية (١٦)) .

إِنها في الآيةِ السادسة عشرة مرتبطةٌ مع الآياتِ التي قبلَها، والتي تتحدثُ عن خلقِ الإِنسِ والجن، قال تعالى: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٦)) . فهي تَذكيرٌ بنعمةِ خَلْقِ الإِنسِ والجِنَ.

أَما في الآيةِ الثامنة عشرة فإِنها مسبوقة بقولِه تعالى: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧)) ، فهي بهدفِ التذكيرِ بمُلْكِ اللهِ لكلِّ ما في الكون، ومنه مُلْكُه للمشرقَيْن وللمغربَيْن.

وهي في الآية (٢١) خاتمة لموضوع جَديد، وردَ في قولِه تعالى: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (١٩) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢١)) .

وهو التذكيرُ بنِعَمِ اللهِ وقدرتِه وعظمتِه، في خلقِ الماءِ العذبِ والماءِ المالح. وهكذا في باقي مَرّاتِ وُرودِها، فليسَ الأَمْرُ تَكراراً مُخِلّاً، كما زعَمَ الفادي الجاهل، وإِنما هو تَنويعٌ وإضافة.

وانتقدَ الجاهلُ وُرودَ بَعْضِ قَصصِ القرآنِ في أَكثرَ من سورة، واعْتَبر ذلك من التَّكرارِ المعنوي، قال: " وفي القرآنِ الكثيرُ من التكرارِ اللفظي، كما في سورةِ الرحمن، والتكرارِ المعنوي كما في قَصص الأَنبياء، فَضْلاً عما فيها من سَجْعٍ مُتَكَلَّفٍ ".

وذَكَرَ بعضَ القَصصِ التي اعْتَبَرَها مُكَررَة، والسورِ المذكورةِ فيها كُلُّ قِصَّة، وهي: " قصة آدم، وقصة نوح، وقصة إبراهيم، وقصة لوط، وقصة موسى، وقصة سليمان، وقصة يونس - الذي سماه يونان، وقصة عيسى - صلى الله عليهم وسلم -.

وكلامُ الجاهلِ باطل، وانتقادُه مردودٌ عليه، فهو يعيبُ ما لا عيبَ فيه، وهو يُخَطِّئُ الصَّوابَ، ويَنتقدُ الصحيح، وإِنَ ذِكْرَ القصةِ القرآنيةِ في أَكثرَ من سورةٍ ليسَ من بابِ التكرارِ المُمِلّ والمُخِلِّ، وإِنما هو من بابِ التنويعِ الهادف، والإِضافةِ الحكيمة، والتناسقِ المعجز.

وعندما نتدبَّرُ المواضعَ المختلفةَ التي وَرَدَتْ فيها القصةُ القرآنية، فسنجدُ أَنَّ اللقطاتِ المعروضةَ من القصةِ متناسبة ومتناسقة ومترابطةٌ مع موضوعِ السورة، ومعَ السياقِ الذي وردَتْ فيه، ومتصلةٌ بما قبلَها وما بعدَها، وتَلْتقي مع السياقِ في تحقيق أَهدافِه العلميةِ والإِخباريةِ والتربوية .

وفي كُلّ مرةٍ جديدةٍ تُعرضُ فيها بعضُ لقطاتِ القصةِ تكونُ فيها معلومةٌ جديدة، أَو فيها جزئيةٌ جَديدة، تضافُ للمعلومةِ المذكورةِ سابقاً.

ولا يَتسعُ المجالُ لتفصيلِ القولِ في هذا الموضوع، ولا لعرضِ الأَمثلةِ التطبيقيةِ من القصصِ القرآني، فإِنَّ الكلامَ في هذا يَطول!.

إِنَّ من الخطأ الكبيرِ أَنْ نَقولَ: تَكَرَّرَ ذِكْرُ قصةِ آدم - مَثَلاً - في سور: البقرة، والأَعراف، والحجر، وطه، وصَ. والواجِبُ أَنْ نقول: ما هو الجزءُ من القصةِ المعروضُ في سورةِ البقرة، وما الذي أَضافَتْهُ سورةُ الأَعرافِ على سورة البقرة، وما الذي ذَكَرَتْه سورةُ طه أَو الحِجْر أَو (ص) ، وما وَجْهُ الاتصالِ والارتباطِ بين المعروضِ في سورةِ الأَعراف - أَو أَيّةِ سورةٍ أُخرى - وبينَ موضوع السورة، والسياقِ الذي ورد فيه.

إِنَّ هذا التنويعَ الهادفَ الحكيمَ وَجْهٌ من وجوهِ الإِعجازِ القرآني، ومزيةٌ من مزايا القرآنِ العظيمة، وليس مَأخَذاً على القرآن.