كتاب القرآن ونقض مطاعن الرهبان-الفصل التاسع نقض المطاعن الفنية (خامس عشر: هل القرآن محكم أو متشابه؟)

الوصف
الفصل التاسع نقض المطاعن الفنية
(خامس عشر: هل القرآن محكم أو متشابه؟)
زَعَمَ الفادي الجاهلُ أَنَّ القرآنَ متناقضٌ في إِخبارِه عن طبيعتِه، فأَخبرَ أَنه مُحْكَمٌ مُبينٌ واضح، وأَخبرَ في موضعٍ آخرَ أَنه متشابه!.
سَجَّلَ آيةً تُخبرُ أَن القرآنَ مُبين، وهي قوله تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣)) .
وسَجَّلَ مقابلَها آيةً تُخبرُ أَنَّ القرآنَ متشابه، وهي قولُه تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٧)) .
إِنَّ الذي يُقابلُ التشابهَ هو الإِحكامُ وليسَ الإِبانة، فنقول: هو مُحْكَم، في مقابلِ قولِنا: هو مُتَشابه.
فَوَضْعُ الفادي " المبينَ " مقابل " المتشابه " دَليلُ جهلِه باللغةِ العربيةِ ومصطلحاتِ القرآن. فالقرآنُ كُلّه مُبين، أَيْ: كُلُّهُ واضحٌ ظاهرٌ مَفهومٌ بَيَنٌ للناس.
أَما الإِحكامُ فهو الإِتقانُ والإِجادةُ والدقة، وحُسْنُ الترتيب والتفصيل، والقرآنُ كُلُّه مُحْكَمٌ مُتقنٌ مفصَّلٌ بهذا الاعتبار؟ قال تعالى: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢)) .
وأَمّا التشابهُ فهو التماثلُ والتَّساوي، يقال: فُلانٌ يُشْبِهُ فُلاناً، أَيْ: هو يُماثلُه ويُساويه، فَهما مُتَماثِلان مُتَشابهان.
والقرآنُ كُلُّه متشابهٌ بهذا المعنى، لأَنَّ سُوَرَهُ وآياتِه متماثلة، متساويةٌ في الوضوحِ والبيان، والفصاحةِ والبلاغة، وفي الدلالةِ على أَنها من عندِ الله. وصَرَّحَ القرآنُ بأَنه كُلَّه متشابهٌ بهذا المعنى للتشابه.
قال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) .
وللتّشابهِ معنى آخر هو: الاشْتِبَاه، بمعنى أَنَّ القارئَ يَقَعُ في اشتباهٍ وشُبْهَة، ويَختلطُ عليه الأَمْرُ، ويَلتبسُ عليه المعنى، بسببِ لَبْسٍ في الكلامِ الذي أَمامه، وغُموضٍ في معناه.
وفي القرآنِ بعضُ الآيات ِ المتشابهاتِ بهذا المعنى، كما وَضحَتْ سورةُ آلِ عمران: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) .
وتُشيرُ الآيةُ إِلى أَنَّ مُعظمَ آياتِ القرآنِ محكمات، أَيْ واضحاتُ الدلالة على المعنى، لا تَحتاجُ إِلى آياتٍ أُخرى لحُسْنِ فهم المعنى، وهذه الآيات ُ المحكماتُ هُنَّ أُمُّ الكتاب، وأَصْلُه الذي لا بُدَّ أَنْ يُعادَ كُلُّ شيء إِليه.
كما تشيرُ الآيةُ إِلى أَنَّ بعضَ آياتِ القرآنِ متشابهات، وهذه الآياتُ المتشابهاتُ قليلةٌ بجانبِ المحكمات.
وسَببُ التشابهِ في الآياتِ القليلةِ المتشابهةِ هو " الغموضُ المقصود " في معناها، واللَّبْسُ الذي قد يَقَعُ فيه بعضُهم عندما ينظرُ فيها، كما فَعَلَ هذا الفادي الجاهلُ في تناقضاتِه الخمسة عشر التي زَعَمَ وُجودَها في القرآن، والتي نَقَضْناها في هذا المبحث.
وأَخبرت الآية ُ عن اختلافِ نظرةِ الناسِ للآياتِ المتشابهات، فقالت: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) .
(الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) : هم الذين يَبحثونَ عن الشبهاتِ والإِشكالات، ويُريدونَ اتباعَ الباطل، ويَهدفونَ إِلى فتنةِ الناس، من أَمثال هذا الفادي الجاهلِ مريضِ القلب، هؤلاءِ يَتَّبعونَ الآياتِ المتشابهاتِ لتحقيقِ أَهدافِهم المريضة.
(وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) : هم المتمكِّنونَ من العلم، الذين يُحسنونَ فَهْمَ القرآن، ولذلك يَحْملونَ الآياتِ المتشابهاتِ القليلةِ على الآياتِ المحكماتِ الكثيرة، التي هي أُمُّ الكتابِ وأَصْلُ المتشابهات، ويَخرجونَ من ذلك بزيادةِ الإِيمانِ واليقين، ويُعْلنونَ ذلك قائلين: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) .
أَيْ: آمَنَّا بالقرآن، وأَيْقَنّا أَنه كَلامُ الله، وكُلٌّ من آياتِه المحكَماتِ والمتشابهاتِ من عندِ ربنا.
وبالمثال يَتَّضِحُ المقال: قال اللهُ عن عيسى ابنِ مريم - عليه السلام -: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) .
في معنى هذه الآيةِ لَبْسٌ وغُموض، فما معنى قول اللهِ له: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) ؟ قد يَحتجُّ بها اليهودُ على أَنهم صَلَبوا عيسى - عليه السلام - وقَتَلوه، وقد يحتجُّ بها النَصارى على أَنَّ عيسى - عليه السلام - قُتِلَ وصلِبَ، ودينُهم يقومُ على الصَّلْب، وشعارُه الصليب.
وقد يقولُ لنا قسّيسٌ جاهِلٌ مثلُ هذا الفادي: لماذا لا تُصَدّقونَ قرآنَكم أَيها المسلمون، وهو يُصرحُ بأَنَّ عيسى توفَّاهُ الله، ومعناهُ أَنه ماتَ، وخرجَتْ روحُه على الصليب!!.
نقولُ لهؤلاء: حتى نَفهمَ هذه الآيةَ التي فيها تَشابُهٌ ولَبْس وغموض، لا بُدَّ أَنْ نَحملَها على آيةٍ محكَمَة، هي لها أُمٌّ وأَصْلٌ، لإزالةِ لَبْسِها وغُموضِها " وهي قول الله تعالى: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) .
إِنّنا نوقنُ بما صرَّحَتْ به هذه الآية ُ المحكَمَة، من أَنَّ اليهودَ لم يَقْتُلوا عيسى - عليه السلام - ولم يَصْلُبوه، والذي قَتَلوهُ وصَلَبوهُ شخْصٌ آخرُ شُبِّهَ لهم، ورَفَعَ اللهُ عيسى حَيّاً إِلى السماء، بروحِه وجِسْمِه، وهو الآنَ حَيٌّ عندَ الله، بروحِه وجِسْمِه.
وعندما نَحْملُ قولَه: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) على قوله: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) نقول: المرادُ بالتَّوَفّي هو القبضُ والتَّغييبُ، وذلك عن طريقِ النوم، أَيْ: أَلْقى اللهُ على عيسى - عليه السلام - في تلك الليلةِ النَّوْمَ، وتوفَّاهُ وهو نائم، أَيْ غَيَّبَهُ وقَبَضَه وهو نائم، ورفَعَهُ إِليه وهو مُتَوفّى نائمٌ.