كتاب القرآن ونقض مطاعن الرهبان-الفصل التاسع نقض المطاعن الفنية ("ثالث عشر: هل نجا فرعون أم غرق؟)

كتاب القرآن ونقض مطاعن الرهبان-الفصل التاسع نقض المطاعن الفنية ("ثالث عشر: هل نجا فرعون أم غرق؟)
146 0

الوصف

                                                   الفصل التاسع نقض المطاعن الفنية 

                                                 ("ثالث عشر: هل نجا فرعون أم غرق؟)

زَعَمَ الفادي الجاهلُ أَنَّ القرآنَ تَناقَضَ في حديثِه عن نهايةِ فرعون، فذكَرَ في سورتي الإِسراءِ والقَصصِ أَنه غَرِقَ مع جنودِه في اليَمّ، وذَكَرَ في سورةِ يونس أَنَّ اللهَ نَجَّاه ببدنِه فهل نَجا أَمْ غَرِق؟!.

كانَ القرآنُ صَريحاً في إِخبارِه عن غَرَقِ فرعونَ مع جنودِه، وأَوردَ الفادي آيتَيْن صريحتَيْن بذلك، هما: قولُه تعالى: (فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (١٠٣) .

وقولُه تعالى: (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠)) .

والآيةُ التي لم يَفهم الفادي مَعْناها لجهْلِه، فاعْتَبَرَها إِخباراً عن نجاةِ فرعونَ من الغرقِ هي قولُه تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (٩٢)) .

دليلُ عدمِ موتِ فرعونَ ونجاتِه من الغرقِ في نظرِ الفادي الجاهلِ جملَةُ: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) ، أَيْ: أَنَّ اللهَ أَنْقَذَهُ من الغَرق، ونَجّاه ببدَنِه وروحِه وعادَ إِلى شعبه مَلِكاً عليهم! وهذا فهمٌ خاطئ يَدُلُّ على جهلِ الفادي بلغةِ

القرآن.

تتحدَّثُ آياتُ سورةِ يونس عن اللحظاتِ الأَخيرةِ من حياةِ فرعون لما لحقَ فرعونُ وجنودُه موسى - عليه السلام - وأَتْباعَه، وأَنْجى اللهُ موسى ومَنْ معه، ودَخَلَ فرعونُ وجنودُه الطريقَ اليَبَسَ في البحر، أَطبقَ اللهُ عليهم البحر، وصاروا تحتَ الماء، فأَهلكهم الله.

أَمّا فرعونُ فلم يكتفِ القرآنُ بذكْرِ وفاتِه، وإِنما ذَكَرَ اللحظاتِ الأَخيرةَ من حياتِه، قبلَ خروجِ روحِه، وذِكْرِ ماذا قالَ وماذا قيلَ له أَطبقَ اللهُ عليه الماءَ، وصارَ هو تحتَ الماء، ولما أَدركَه الغرق وأَحاط به من كُلِّ جانب، وأَيقنَ بالموت، أَعلنَ إِيمانَه بالله، الذي حارَبه وهو في قمةِ مُلْكِه: (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠)) .

وكان بجانِبه الملائكةُ الموكَّلون بقبضِ روحه، وسَمعوهُ وهو يُعلنُ إِيمانَه، وأَحَبّوا أَنْ يُشْعِروهُ بخسارتِه، ليزدادَ نَدَماً وخِزْياً قبلَ موتِه، فأَمرهم اللهُ أَنْ يقولوا له: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً..) .

والمعنى: آلآنَ أَعلنتَ إِيمانَك يا فرعون؟! لقد جاءَ إِيمانُك متأَخِّراً، ولو جاءَ في وقتِه المناسبِ لقُبِلَ منك، أَما الآنَ فإِنه لَنْ يُقبلَ منك، وستموتُ تحتَ الماء، وسنُنَجيك ببدنِكَ بعدَ خروجِ روحِك، ولن يَسقطَ بدنُك في قاعِ البحر، ولن يكونَ طعاماً للسَّمك، وسنأْمُرُ موجَ البحرِ أَنْ يَقذِفك على شاطئ البحر، وسيَرى الناسُ بدنَك الهامدَ على الشاطئ، فتكونُ لمن خَلْفَك آيةً وعبرة، ودلالةً على أَنك مخلوق ضعيف، ولستَ إِلهاً وربَّاً للناس.

ونجَّى اللهُ بَدَنَ فرعونَ بعدَ خروجِ روحِه وموتِه، ولم يَسقطْ بدنُه في قعرِ البحر، ولم تبتلِعْه الأَسماك، وأَمَرَ الموجَ أَنْ يقذفَه على الشاطئِ، ومَرَّ به رجالُ دولتِه، وشاهَدوه جُثَّةً هامدة، وأَيْقَنوا أَنه ماتَ تحتَ الماء، وأَنَّ بَدَنَه

على الشاطئ، أَخذوه وحَنَّطوه، ووَضعوهُ فِي تابوتِهِ، ودَفَنُوهُ في مدافنِ الملوك في وادي طيبةَ عاصمتهم.

واكتشفَ علماءُ الآثارِ جُثَّتَه، واسْتَخْرَجوها من المدافن، وعُرِضَتْ في متحفِ الآثار، وأَبقى اللهُ جثةَ فرعونَ آيةً على مدارِ القرون، وما زالتْ آيةً تنشرُ دروسَها وعِبَرَها بعد مرورِ آلافِ السنين على موتِ صاحبها!.

وبهذا نعرفُ التوافقَ بين قولِه تعالى: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) ، وقوله تعالى: (فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا) .