كتاب القرآن ونقض مطاعن الرهبان-الفصل التاسع نقض المطاعن الفنية (أَوَّلاً: هل يتبدَّلُ كلامُ الله؟)

الوصف
الفصل التاسع نقض المطاعن الفنية
(أَوَّلاً: هل يتبدَّلُ كلامُ الله؟)
ذَكَرَ الفادي ثلاثَ آياتٍ تدلُّ على أَنَّ كلامَ اللهِ لا يَتَبَدَّلُ. قال تعالى: (لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ) وقال تعالى: (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) .
وقال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)) . ما هو موضوعُ الآيةِ التي أَخبرتْ أَنَّه لا مُبَدِّلَ لكلماتِ الله؟.
آيةُ سورةِ يونس في سياقِ الحديثِ عن حفظِ اللهِ لأوليائه.
قال تعالى: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤)) .
المرادُ بكلماتِ اللهِ هنا قَدَرُ اللهِ وإِرادَتُه ومشيئَتُه سبحانه، وليس كلامَه القرآنَ الكريم، فاللهُ قَدَّرَ سعادةَ وفوزَ أَوليائِه المتقينَ في الدنيا والآخِرة، وهذا لا بُدَّ أَن يَتَحَقَّقَ، لأَنَّ اللهَ هو الذي قَدَّره وأَرادَه، ولا رادَّ لأَمْرِه، ولا تَبديلَ لقَدَرِ اللهِ وإِرادتِه.
وآيةُ سورةِ الكَهفِ تأمُرُ بتلاوةِ القرآن، قال تعالى: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (٢٧)) .
" مُبَدِّلَ ": اسم فاعل. وهو اسْمُ " لا " النافية للجنس. والمرادُ بكلماتِه هنا آياتُ القرآنِ وجُمَلُه وأَلفاظُه.
والتقدير: لا يَقْدِرُ أَحَدٌ من المخلوقينَ على أَنْ يُبَدّلَ كلماتِ الله، التي أَنزلَها على رسولِه - صلى الله عليه وسلم -.
ومصداق هذه الآية ما صَرَّحَتْ به آيةُ سورةِ الحجر: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)) . فبما أَنَّ اللهَ تعهَّدَ بحفْظِ كتابه، فلا يَقْدِرُ أَحَدٌ على أَنْ يُغَيِّرَ أَوْ يُبَدِّلَ فيه .
لِننظر الآنَ في الآياتِ التي زَعَمَ الفادي الجاهلُ تعارُضَها مع هذه الآيات!.
قال تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٠١)) .
وقال تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦)) .
وقال تعالى: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (٣٩)) .
هل هذه الآيات ُ متعارضةٌ مع الآيات ِ السابقة؟ وما وَجْهُ معارضتِها لها؟ الآياتُ السابقةُ تقررُ أَنه لا يَقْدِرُ أَحَدٌ من المخلوقين على تبديلِ كلماتِ الله، فهل تُقررُ هذه الآياتُ أَنه يمكنُ لأَحَدٍ من المخلوقين تبديلُ كلماتِ الله؟.
آيةُ سورةِ الرعدِ لا تتحدَّثُ عن آياتِ القرآن، وإِنما تتحدَّثُ عن المحوِ والإِثباتِ والتغييرِ والتبديلِ في قَدَرِ الله، وتِجعلُ هذا بيَدِ اللهِ وحده.
فالله يَمحو ويُغيرُ ما يَشاءُ من قَدَرِه، ويُثْبِتُ ويُبْقي ما يَشاءُ من قَدَرِهِ، وله الحكمةُ في ما يَمْحو وما يُثْبِت، وعنده أُم الكتاب، وهو اللوحُ المحفوظ، الذي جعلَ فيه كُلَّ ما يريدُ فِعْلَه في هذا الكونِ، قبلَ خَلْقِ السمواتِ والأَرض.
وظَنَّ الفادي الجاهلُ أَنَّ المرادَ بأُم الكتابِ هنا القرآنُ كُلُّه، أَو سورةُ الفاتحة، وهذا ظَنّ باطِل، فالمرادُ بأُمِّ الكتابِ هنا اللوحُ المحفوظ.
وتتحدَّثُ آيةُ سورةِ البقرةِ عن النسخ، وتجعلُه بيدِ اللهِ وحْدَه سبحانه، فإذا نسخَ اللهُ آيةً من آياتِ القرآن، وأَلْغى حُكْمَها، فإِنه يأتي بآيةٍ أُخْرى، فيها حُكْم خيرٌ من حُكْمِ الآيةِ المنسوخة، أَو هو مثْلُه.
فاللهُ هو الذي ينسخُ ما يشاءُ من أَحكامِ القرآن، أَمّا المخلوقُ فإِنه يَستحيلُ عليه نسخُ أَو تبديلُ القرآن، وكلُّ مسلمٍ يعتقدُ هذا عن يَقين.
وتَرُدُّ آيةُ سورةِ النحل على اتهاماتِ وإِشاعاتِ الكفار، فإذا نَسَخَ اللهُ اَيَةً بآية، وبَدَّلَ آيةً مكانَ آية، اتهمَ الكفارُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالتلاعبِ والتحريف، وقالوا له: إِنما أَنتَ مُفْتَرٍ.
فتردّ عليهم الآيةُ بأَن النسخَ والتبديلَ لم يَصدرْ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.
وإِنما هو من فعل اللهِ وحدَه، فالكلامُ كلامُه، والأَمرُ أَمرُه، وهو أَعلمُ بما يُنزلُ من الآيات، وأَعلمُ بما يَنَسخُ ويُبدلُ ويُبقي من الأَحكام.
ولذلك لما طلبَ الكفارُ من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تغييرَ القرآنِ أَو تبديلَه، كان يردُّ عليهم بأَنه لا يكونُ له ذلك، لأَنه متَّبعٌ لشرعِ الله، قال تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥)) .
فلا تَعارضَ بين الآياتِ التي تَنفي إِمكانيةَ التبديلِ لكلماتِ الله، وتلك التي تُثبتُ ذلك، لأَنَّ كُلَّ مجموعةٍ متوجهةٌ إِلى حالَة، بتَناسقٍ وتَوازنٍ وتَكامل.
الآياتُ التي تَنفي التبديلَ متوجهةٌ إِلى المخلوقين، فلا يُمكنُ لأَيِّ مخلوقٍ - مهما عَلَتْ منزلتُه وعَظُمتْ قوتُه - أَنْ يُغيرَ أَو يُبدلَ كلماتِ الله، سواء كانتْ أَقدارَ الله، أَو كانت بعضَ آياتِ كتابِه.
والآياتُ التي تُخبرُ عن إِمكانيةِ تبديلِ آياتِ القرآن، تجعلُ ذلك بيدِ اللهِ وحده، فهو صاحبُ الحَقِّ في نسخِ وتبديلِ ما يشاءُ من آياتِه، وفْقَ ما يعلمُه من الحكمة، وما يحققُه لعبادِه من المصلحة.
فأَينَ التعارضُ والتناقضُ بين الآيات؟ المشكلةُ في جهلِ الفادي المفترِي، الذي يصدقُ فيه قولُ الشاعر:
وَكَمْ من عائِبٍ قَوْلاً صَحيحاً ... وآفَتُه هي الفَهْمُ السَّقيمُ