كتاب القرآن ونقض مطاعن الرهبان-الفصل السادس نقض المطاعن التشريعية (حول القصاص في القتل)

كتاب القرآن ونقض مطاعن الرهبان-الفصل السادس نقض المطاعن التشريعية (حول القصاص في القتل)
147 0

الوصف

                                                   الفصل السادس نقض المطاعن التشريعية

                                                          (حول القصاص في القتل)

وَقَفَ الفادي أَمامَ آيةِ القصاص في القَتْل، وهي قولُ اللهِ - عز وجل - (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) .

وذَكَرَ تفسيرَ البيضاويِّ للآية، واختلافَ المذاهبِ في قَتْلِ الحُرِّ بالعَبْدِ والذَّكَر بالأُنثى، مع أَنَّ الآية لا تَدُلُّ على جوازِ ذلكِ ولا على مَنْعِه، كما قال البيضاوي: " ولَا تدلُّ الآيةُ على أَنْ لا يُقْتَلَ الحُرُّ بالعَبْد، والذكَرُ بالأُنثى، كما لا تَدُلُّ على عكْسِه ". فمسأَلَةُ قَتْلِ الحُرِّ بالعَبْدِ، والذكْرِ بالأُنثى، والمؤمنِ بالكافر، لم يتكلَّمْ فيها القرآنُ كَلاماً صَريحاً، وإِنما اختلفَ فيها العلماء والمذاهبُ اختلافاً كبيراً..

ومع ذلك اعترضَ الفادي المفترِي على القرآنِ فيها، وخَطَّأَه وانْتَقَدَه، مع أَنه لم يتكلَّمْ فيها!! قال: " ونحنُ نسأل: لماذا سمحَ محمدٌ وأَبو بكر وعمرُ وعليٌّ للأَغنياءِ والسادةِ أَنْ يَقْتلُوا العبيدَ دونَ أَنْ يَقْتَصوا منهم، وجَعلوا عَدَمَ قتْلِ الحُرّ بالعبدِ والمسلمِ بذي عَهْد سُنَةً أَقَرَّها المذهبُ المالكيُّ والمذهبُ الشافعي؟ ولماذا لم يَعْتبِروا قول التوراةِ المحكيَّ في القرآنِ (النَّفْس بِالنَّفْسِ) قانوناً إِلهياً واجبَ الاتِّباع، مُدَّعين أَنَّ التوراةَ لا تَنسخُ القرآن، رغمَ أَنَّ عبارةَ القرآنِ تُنافي قواعدَ العدلِ والمساواةِ بين البشر؟ إِنَّ اللهَ واحد، وقانونَه واحد، فلماذا يُحابي الإسلامُ الأَغنياء، فلا يُطالبُ بدماءِ العبيدِ من أَعناقِ السادةِ؟ ومن الغريبِ أَنَ الشرعَ الإِسلاميَّ يصرحُ أَنه لا يُقْتَلُ مؤمنٌ بدمِ كافرٍ، ولا بدَمِ ذي عَهْد. أَلا يُعتبرُ هذا رخصةً من الإِسلامِ للعَبَثِ بأرواحِ جميعِ بني آدم، واعتبارِ العهودِ قُصاصةً على وَرَق؟ ! ". اعتراضُ الفادي المفترِي على القرآن لا يتناسبُ مع موضوعِ كتابِه، وكان الأولى به أَنْ لا يجعلَه في الكتاب، لأنه خَصَّصَ الكتابَ لاكتشافِ الأَخطَاءِ في القرآن، وهذا ليسَ موضوعاً قرآنياً، ولكنه يُريدُ أَنْ يُسَجِّلَ كُلَّ ما يُثيرُ الشبهةَ والتشكيكَ في القرآن!.

إِنَّ مسألةَ الاختلافِ في قتلِ الحُرِّ بالعبدِ والذكَرِ بالأنثى والمؤمنِ بالكافرِ مسألةٌ فقهية، وليستْ مسألةً قرآنية أَو حديثية، والأَوْلى أَنْ تُبْحَثُ ضمنَ المباحثِ الفقهية، وقد اختلفَ فيها الفقهاء.

فالشافعيةُ يرونَ أَنه لا بُدَّ من التكافؤ في القصاص، بمعنى أَنْ يَكونَ القتيلُ مُكافِئاً للقاتلِ ليتمَّ القِصاص، وبما أنه لا تَساويَ بين الحُرِّ والعبد، والمؤمنِ والكافر، والذكرِ والأُنثَى، فلا قصاصَ بينهم، فإذا قَتَلَ الحُرُّ عَبْداً، أَو المؤمن كافراً، أَو الرجلُ امرأة، دفعَ القاتِلُ الدِّيَةَ ولم يُقْتَصَّ منه. أَما الأَحنافُ فإنهم لا يشترطونَ التكافؤَ في القصاص، ويَجوز قَتْلُ الأَعلى بالأَدنى، أَيْ أَنه يُقْتَلُ عندهم الحُرّ إِذا قَتَلَ عَبْداً، ويُقْتَلُ المؤمنُ إِذا قتَلَ كافراً ذِمِّيّاً معاهِداً، ويُقْتَلُ الرجلُ إذا قَتَلَ امرأة.

ومع أَنَّ المسألةَ خلافية بين المذاهِب، فيجوزُ أَخْذُ أَيّ قَوْل، وتَرجيحُه على الأَقوالِ الأُخْرى، دودنَ ذَمٍّ لأَصحابِ الأَقوال الأُخرى، أَو اتهامِ الإِسلامِ والقرآنِ بالخطأ أَو الظلمِ والمحاباة، كما فعلَ الفادي المفترِي.

وإِنّني أَميلُ منذُ مُدَّة إلى ترجيح قولِ الأَحنافِ في هذه المسألة، مع أَني شافعيُّ المذْهَب، لأَنني أَراه أَكثرَ اتفاقاً مع المساواةِ وإنسانيةِ الإِنسان، وتحقيقِ العدالةِ الإنسانية، مع احترامي للأَقوالِ الأخرى فيها.

وإِنَّ عَدَمَ قتلِ الحُرِّ بالعبدِ كما يُقررُ المذهبُ الشافعي لا يعني مُحاباةَ الأَغنياءِ والسادة.

ولا يَعني ذهابَ دِماءِ العبيدِ هَدْراً، لأَنَّ الحكم يَنتقلُ من القِصاصِ إِلى الدِّيَة، يَدْفَعُها أَهلُ القاتلِ إِلى أَهلِ القتيل. والفادي المفترِي الذي شَنَّ على النَّسخِ هُجوماً شَديداً، يَدْعو الآنَ إِلى اعتمادِه والقولِ بِه، لأَنه يتفقُ مع هواه! فقد أَخْبَرَنا الله في القرآنِ عن حُكْمِهِ في التوراة بوجوب قَتْلِ أَيِّ نفسٍ بأَيّ نفس. 

قال تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) . 

وعَلَّقَ الفادي على هذا بقوله: " ولماذا لم يَعْتَبِروا قولَ التوراةِ المحكيَّ بالقرآن: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) قانوناً إِلهياً واجبَ الاتِّباعِ، مُدَّعين أَنَّ التوراة لا تَنسخُ القرآن! ".

وكيفَ يُريدُ للتوراةِ النازلةِ قبلَ القرآن بمئاتِ السِّنين أَنْ تنسخَه، مع أَنه من المتفق عليه عند العُقَلاءِ أَنَّ السابقَ المتقدِّمَ لا ينسخُ اللاحقَ المتأَخِّر. وإذا كان اللهُ قد أَوجبَ القِصاصَ في التوراة، وأَوجبَ قَتْلَ النفسِ بالنفس، فقد أَوجبَ ذلك في القرآن، عندما أَمَرَ بالقصاصِ في القَتْلى، وفَصَّلَ ذلك بقولِه: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى) . فهذه الحالاتُ الثلاثةُ في الآيةِ تفسيرٌ للنفسِ بالنفس. أَما الجملةُ التي ذَكَرَها الفادي: " إِنَّ عبارةَ القرآنِ تُنافي قواعدَ العدلِ والمساواةِ بين البشر " فهي جملةٌ فاجرة، شَتَم المجرمُ بها القرآنَ، مع أَنَّ العبارةَ التي اعترضَ عليها لا تَتَنافى مع العدلِ والمساواةِ بينَ البَشَر، وإِنما تَعْمَلُ على إقرارِها وسيادتِها.

وإِذا كانَ بعضُ المذاهبِ لا يُجيزونَ قَتْلَ المسلمِ بالذِّمّيّ قِصاصاً؟ فإِنَّ مذاهبَ أُخرى أَجازَتْ ذلك، وسبقَ أَنْ ذَكَرْنا أَنَّ المذهبَ الحنفيَّ يقولُ بذلك، وأننا رجَّحْنا هذا القول.

وحتى عندَ الذينَ لا يَقْتُلونَ المسلمَ بالذِّمِّيِّ المعاهَدِ قِصاصاً، فإِنَّ دَمَ الذِّمّيِّ القتيلِ لا يَذهَبُ هَدْراً؟ لأَنَّ الواجبَ ينتقلُ إلى الديَة، يدفعُها أَهلُ القاتلِ لأهلِ القتيل!.

وهذا لا يُؤَدّي إِلى اعتبارِ العهدِ في الإِسلامِ لا قيمةَ لها، فالإِسلامُ دَعا إِلى الالتزام بالعهودِ والوَفاءِ بها، والمسلمون من أَكثرِ النَّاسِ التزاماً وَوَفاءً بالعهود.

كما أنه يَعتبرُ المحافظةَ على الأَرواحِ والدّماءِ من مقاصدِه الأَساسية، ولا يُجيزُ سَفْكَ دَمِ أَيِّ إنسانٍ أَو إِزهاقِ روحِه إِلَّا بسببٍ مَشْروع، مثل الجهادِ للمُعتَدين، أو تطبيقِ الحَدِّ الشرعيِّ على المجرمين.