كتاب القرآن ونقض مطاعن الرهبان-الفصل السادس نقض المطاعن التشريعية (تفسير سياسي لتحويل القبلة)
الوصف
الفصل السادس نقض المطاعن التشريعية
(تفسير سياسي لتحويل القبلة)
وَقَفَ الفادي أَمامَ حادثةِ تَحويلِ القبلة، وتَحَدَّثَ عنها بسَفاهَةٍ وَوَقاحَة. لما كانَ المسلمونَ في مكةَ كانَتْ قبْلَتُهم في صلاتِهم الكَعْبَة.
ولما هاجروا إِلى المدينة جَعَلَ اللهُ قبلَتَهم بيتَ المقْدِس، وبعدَ ستةَ عَشَرَ شَهْراً أَوْ سبعةَ عَشَرَ شَهْراً، حَوَّلَ اللهُ القبلة، وأَعادَها إِلى الكعبة، وجاءَ هذا التحويلُ صَريحاً في قولِه تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) .
واعتبرَ القرآنُ أَنَّ الذينَ يَعترضونَ على تحويلِ القبلةِ سُفَهاء، قال تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢)) .
وتوقَّفَ الفادي السفيهُ مع آياتِ تَحويلِ القبلة من سورةِ البقرة، ونَقَلَ بعضَ كلامِ البيضاويّ في تَفسيرِها. ثم سَجَّلَ اعتراضَه على ذلك التحويل بِسَفاهة. قال: " ونحنُ نسأل: إِذا كانَت القبلةُ شريعةً وركناً من أَركانِ الصلاة،فلماذا تتغَيَّر؟ هل هي لعبةٌ سياسيةٌ لاستمالةِ قُلوبِ العربِ تارة، واستمالةِ قُلوب اليهودِ أُخْرى؟ فاتَّجَهَ مع العربِ في مكةَ إِلى الكعبة، ولما هاجَرَ إِلى المدينة حيثُ الكثيرُ من اليهودِ اتَّجَهَ إِلى بيتِ المقْدِس، ولما هاجَمَهُ اليَهودُ جَعَلَ قبلَتَه الكعبةَ مَغ أُخْرى! لقد كَانَ لتغييرِ القبلةِ طَنَّةٌ وَرَنَّةٌ، حتى ارتَدَّ كثيرونَ عن الإِسلامِ إِلى اليهودية، وقالوا: رَجَعَ محمدٌ إِلى دينِ آبائِه، وتَرَكَ قبلةَ اليَهود، التي هيَ حَقّ!.. وعَيَّرَ اليهودُ المسلمين، فقالَ حُيَيُّ بنُ أَخْطَبَ وأَصحابُه من اليهود: أَخْبرونا عن صلاتِكم إِلى بيتِ المقْدِس: إِنْ كانَتْ على هدى، فقد تخلَّيْتُم عنه، وإِنْ كانَتْ على ضَلالَةٍ، فقد دِنْتُم اللهَ بها، وَمَنْ ماتَ عليها فقد ماتَ على ضَلالة فلماذا طَعَنَ محمدٌ في الذينَ اعْتَرَضوا عليه بأَنهم من السُّفهاء؟ لقد كانَ لهم كُلُّ الحَقِّ أَنْ يَسْأَلوا ... ".
لم ينظر الفادي السَّفيهُ لمسألةِ تَحويلِ القبلة على أَنها تشريعٌ رباني، وتوجيهٌ مباشِرٌ من الله سبحانه، وحَلَّلَها تَحْليلاً تافِهاً سَفيهاً، مرتبطاً مع نَظرتِه للقرآنِ والوحي.. إِنه لا يَعترفُ بنبوةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ولا بأَن القرآنَ وَحْيٌ من الله، ولذلك اعتبرَ القبلةَ اختياراً خاصّاً من الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، فهو الذي يَختارُ ما يَشاء، ويَجعلُه قِبْلَة، ويأمُرُ أَتْباعَه بالتوجُّهِ حيثُ يَشاء! وهذا تأكيدٌ منه على بَشَريةِ القرآنِ والإِسلام!.
ثم يَنتقلُ المجرمُ إِلى جريمةٍ أُخرى، حَيثُ يَجعلُ تَحويلَ القبلةِ " لُعْبَةً سياسية " من الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - فلما كانَ في مكةَ جَعَلَ قبلَتَه الكعبةَ ليَستميلَ العربَ الجاهليّين، ولما هاجَرَ إِلى المدينةِ حَوَّلَ قبلَتَه إِلى اليهودِ ليَستميلهم، ولما لم يَنجحْ في ذلك وغَضِبَ منهم أَعادَ قبلتَه إِلى الكعبة!! بهذه السفاهةِ حَلَّلَ الفادي السفيهُ مَسألةَ تَحويلِ القبلة، ودافَعَ عن السفهاءِ السابقين من أَمثالِه، الذين اعْتَرَضوا على تحويلِ القبلة، واعْتبروه تَلاعُباً، ولما رَدَّ اللهُ عليهم اعْتَبَرهم سُفَهاء.
قال الفادي مُدافعاً عَنْهم: " فلماذا طَعَنَ محمدٌ في الذينَ اعْتَرَضوا عليه بأَنهم من السُّفهاء؟ لقد كانَ لهم كُلُّ الحَقِّ أَنْ يَسْأَلوا ".
اعتبرهم اللهُ سُفهاءَ لاعتراضِهم على تَحويلِ القبلة، والفادي المفتري رَدَّ كَلامَ اللهِ، واعْتَبرهم حُكَماء، وعلى حَقٍّ فِي اعتراضِهم.
لِيَقُل الفادي السفيهُ عن تحويلِ القبلةِ ما يَشاء، فكلامُه وتحليلُه مَردودٌ عليه، ونحنُ نوقِنُ أَنَّ استقبالَ القبلةِ في الصلاة كانَ بأَمْرٍ من الله، وأَنَّ تَحديدَ القبلةِ كانَ بأَمْرٍ من الله، وأَنَّ تَحويلَ القبلةِ كان بأَمْرٍ من الله، لتحقيقِ حكمةٍ أَرادَها الله... إِنَّ اللهَ هو الذي جَعَلَ القبلةَ في مكةَ الكعبة، واللهُ هو الذي أَمَرَالمسلمينَ بعدَ الهجرةِ بالتوجُّهِ إِلى بيتِ المقدس، لحكمةٍ يُريدُها سبحانه، ولما تَحققتْ تلك الحكمةُ الربانيةُ هو الذي أَمرهم بالعودَةِ إِلى القبلة الأُولى الكعبة.. فالأَمْرُ والتحويلُ والتوجيهُ من اللهِ سبحانه، الذي له الأَمْرُ والنَّهْي، وما الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - إِلّا مُنَفّذٌ لأَمْرِ الله.
وقد كان هذا المعنى واضحاً صَريحاً في حديثِ القرآنِ عن تحويلِ القبلة. قال تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٤٣) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥)) .
الدلالاتُ التي يمكنُ أَنْ تُؤْخَذَ من هذه الآياتِ الأَربعِ عديدة، ليس هذا مكانَ الحديثِ عنها، ونُشيرُ هنا إِشاراتٍ خاطفةً إِلى بعضِ حقائقِ الآياتِ حول القبلة:
١ - تَنُصُّ الآيات ُ على أَنَّ الذينَ يَعْترضونَ على تحويلِ القبلةِ سُفَهاء، وهذا يَشملُ كُلَّ المعترِضين في أَيِّ زَمانٍ ومكان، فالفادي المفْتَري سَفيهٌ من السفهاء:
(سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) .
٢ - كانَ تحويلُ المسلمين إِلى بيتِ المقْدِس امتحانا من اللهِ لهم: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) .
٣ - كانَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - يتمنّى أَنْ تَتَحَوَّلَ القبلةُ عن بيتِ المقدسِ إِلى الكعبة، لكنه كان متأدِّباً مع الله، فلم يَطْلُبْ منه ذلك، وإِنما كان يُقَلِّبُ وجهه في السماء، متمنِّياً أَنْ ينزل جبريلُ بالتوجُّهِ إِلى القبلةِ الجديدة: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ... ) .
٤ - تُصرحُ الآياتُ بأَنَّ اللهَ هو الذي وَلّى رسولَه - صلى الله عليه وسلم - إِلى القبلةِ الجديدة: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) .
إِنَّ هذه التعبيراتِ الصريحةَ تُبَيِّنُ كَذِبَ وسَفَهَ الفادي المفترِي في اعتراضه على تحويلِ القبلة، وتحليلِه المتهافتِ لذلك التحويل!.