كتاب القرآن ونقض مطاعن الرهبان-الفصل السادس نقض المطاعن التشريعية (هل شعائر الحج من الوثنية؟)

كتاب القرآن ونقض مطاعن الرهبان-الفصل السادس نقض المطاعن التشريعية (هل شعائر الحج من الوثنية؟)
106 0

الوصف

                                                    الفصل السادس نقض المطاعن التشريعية 

                                                       (هل شعائر الحج من الوثنية؟)

ادَّعى الفادي المفترِي أَنَ بعضَ شعائِرِ الحَجِّ أُخِذَتْ من الوثنية، مثلُ السَّعْيِ بينَ الصَّفا والمَرْوَة.

قالَ: " جاءَ في سورةِ البقرة: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا)

قالَ البيضاوي: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ) : هما عَلَما جَبَلَيْنِ بمكَّة. (مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) : من أَعلامِ مناسِكِه، جمعُ شعيرة، وهي العَلامة.

(فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) : الحَجُّ لغةً: القصد، والاعتمارُ: الزيارة، فَغَلَبا شَرْعاً على قَصدِ البيتِ الحرام وزيارَتِه، عَلى الوجهين المخصوصَيْن.

(فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) : كانَ إِسافُ على الصفا، ونائلة على المروة، وكانَ أَهْلُ الجاهلية إِذا سَعَوا مَسَحوهُما، فلما جاءَ الإِسلامُ وكُسِرَت الأَصنامُ، تَحَرَّجَ المسلمونَ أَنْ يَطَّوَّفوا بينَهما لذلك، فنزلَتْ، والإِجماعُ على أَنَّه مَشروعٌ في الحَجِّ والعمرة!. 

" ونحنُ نسأَل: كيفَ يَجعلُ القرآنُ الشعائِرَ الوثنيةَ شعائِرَ الله؟ وهل كان الوَثَنِيُّون مُلْهَمين فيها من الله؟ ". إِنَّ تساؤُلَ الفادي خَبيث، وهو يَهدفُ إِلى التشكيكِ في أَحكامِ القرآن، والاعتراضِ عليها، ونفيِ أَنْ تَكونَ من عندِ الله.

كانَ العربُ في الجاهليةِ يَحُجّونَ على طريقتِهم، ويَطوفونَ بالبيت، ويَسعونَ بينَ الصَّفا والمروة، ويَقِفونَ بعَرَفات، ويُقيمونَ في مِنى. ولما جاءَ الإِسلامُ أَمَرَ المسلمينَ بالحَجِّ، واعتَبَرَهُ رُكْناً من أَركانِ الإِسلام.

ومن أَركانِ الحَجِّ السعيُ بينَ الصَّفا والمروة، بنَصّ الآيةِ المذكورة ، وبفعْلِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. صَحيحٌ أَنَّ العربَ الجاهليّين الوثنيِّين كانوا يَسعونَ بينَ الصَّفا والمروة، لكنَّ القرآنَ لم يَأَخُذ تشريعَه عنهم، كما يَزعمُ الفادي المفتري، فليس في مناسِكِ الحَجِّ شيءٌ من شعائِرِ الجاهلية.

إِنَّ الحَجَّ مرتبطٌ بإبراهيمَ وإِسماعيلَ - صلى الله عليهما وسلم -، فهما اللَّذان بَنَيا البيتَ الحرام، أَوَّلَ بيتٍ وُضِعَ للناسِ في الأَرضِ لعبادةِ الله، ولما فَرَغا من بنائِه أَمَرَ اللهُ إِبراهيمَ - عليه السلام - أَنْ يُؤَذِّنَ في الناسِ بالحَجّ، فَفَعَل، وحَجَّهُ أَوَّلُ فوجٍ من الحُجّاجِ زمنَ إِبراهيمَ - صلى الله عليه وسلم -.

قالَ تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧)) .

واستمرَّ الناسُ يَحُجّون، منذُ إِبراهيمَ - عليه السلام -، يَتَوارَثونَ الحَج منذُ ذلك التاريخ، لكنَّهم يَرتكبونَ فيه كَثيراً من مظاهرِ الشركِ والمخالفات. فلما جاءَ الإِسلامُ طَهَّرَ الحَجَّ من ممارساتِ الجاهليِّين الباطلة، وأَعادَ له صِلَتَهُ الإِيمانية بإبراهيمَ - صلى الله عليه وسلم -، وأَعطاهُ طابَعَهُ الإِيمانيّ، وجَعَلَه عبادةً خالصةً لله - عز وجل -. وبذلك صارَتْ شعائرُ الحَجِّ إِسلاميةً ربانية، وليستْ وثنيةً جاهلية!.

ومما يُؤَكِّدُ هذا المعنى الحوارُ الذي دار بين عروةَ بنِ الزبير وخالتِه عائشة - رضي الله عنها -. روى البخاريُّ ومسلمٌ عن عروةَ بنِ الزبير: أَنه قالَ لعائشةَ - رضي الله عنها -: قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) .

فما أرى على أحد شيئاً أن لا يطوف بهما! فقالَتْ عائشة: لو كانَتْ كما تَقولُ لكانَتْ: " فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ".

إِنما أُنزلَتْ هذه الآية ُ في الأَنْصار، كانوا يُهلّونَ لمناة، وكانَتْ مَناةُ حَذْوَ قُدَيْد، وكانوا يتحرَّجون أَنْ يَطَّوفوا بينَ الصفا والمروة، فلما جاءَ الإِسلامُ سأَلوا رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فأَنزلَ اللهُ الآية ...

تُصَحِّحُ عائشةُ - رضي الله عنها - لابن أُخْتِها عروةَ بنِ الزبيرِ معنى الآية، فقد فَهِمَ عُروةُ من الآيةِ أَنها تُبيحُ للحاجِّ أَو المعتمرِ عَدَمَ الطَّوافِ بهما، فبيَّنَتْ له أَنَّ الآيةَ توجِبُ عليه الطوافَ بهما، وأَنه لو كانَ مَعْناها كما فَهِمَ عروةُ لقالَتْ: " فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ".

ثم ذَكرتْ عائشةُ - رضي الله عنها - مُناسبةَ نُزولِ الآية، وأَشارَتْ إِلى بعضِ ممارساتِ العربِ الجاهليّين في الحج، فكانَ العربُ من أَهْلِ المدينة لا يَطوفونَ بينَ الصّفا والمروة، فلما أَسْلَموا ورأَوا المسلمينَ من المهاجِرين يَفْعلونَ ذلك سأَلوا الرسولَ - صلى الله عليه وسلم -، فأَنزلَ اللهُ الآيةَ يَأَمرُ المسلمين أَنْ يَسْعَوْا بينَ الصَّفا والمروة، ويُزيلُ التحرجَ الذي كانَ عليه أَهْلُ المدينةِ قبلَ الإسلام: (فَلَا جُنَاحَ عَليهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) .

وبهذا نعرفُ افتراءَ الفادي المفترِي عنْدَما جعلَ السعيَ بين الصَّفا والمروةِ شعيرةً وثنيةً جاهلية! فهو تَشريعٌ قرآني، وأَمْرٌ ربّاني، وعبادةٌ خالصةٌ لله!.