كتاب القرآن ونقض مطاعن الرهبان-الفصل الرابع نقض المطاعن اللاهوتية (أرواح الشهداء وأجواف الطيور الخضر)
الوصف
الفصل الرابع نقض المطاعن اللاهوتية
(أرواح الشهداء وأجواف الطيور الخضر)
خَطَّأَ الفادي المفترِي القرآنَ في حديثِه عن حياةِ الشهداءِ عندَ رَبِّهم، كما خَطَّأَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في إِخبارِه عن كونِ أَرواحِ الشهداءِ في أَجوافِ طُيورٍ خُضر، واعترضَ على كلامِ القرآنِ عن البرزَخ.
قالَ اللهُ عن البرزخ: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠)) .
والبرزَخُ هو المرحلةُ الانتقاليةُ التي يَكونُ عليها الأَمواتُ من البَشَرِ في قُبورِهم، بانتظارِ قيامِ الساعة، وهم إِمّا " مُنَعَّمونَ في قُبورِهم إِنْ كانوا مُحْسنين، وإِمّا مُعَذَّبون في قُبورِهم إِنْ كانوا مُسيئين، والقَبْرُ إِمّا روضَةٌ من رياضِ الجَنَّة، وإِمّا حُفرَةٌ من حُفَرِ النّار، كما أَخبرَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم وعَلَّقَ الفادي على كلامِ القرآنِ عن البرزخِ بقوله: " والبرزَخُ هو مكانُ الأَرواح، فيه تُحْفَظُ أَرواحُ الأَشْرار، فلا يَقْدِرونَ على الرُّجوعِ إِلى الحياةِ الدنيا ".
وكلامُه غيرُ صحيح، فالبرزخُ ليسَ مَكاناً لحفْظِ أَرواحِ الأَشْرارِفقط، وإِنَّما هو مكانّ لكُلِّ النّاس، مُؤْمِنين وكافِرين، ومُحْسِنين ومُسيئين، لأَنه مرحَلَةٌ حتميةٌ لما بَعْدَ الموت.
كما أَنَّ البرزخَ ليسَ مَكاناً للأَرْواحِ فقط، وإِنما هو مكانٌ لكُلِّ إِنسان، بجسْمِه وروحِه وكيانِه كُلِّه. وقد أَخَبَرنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ كُلَّ إِنسَانٍ عندما يوضَعُ في قَبْرِه، تُرَدّ له روحُه في جَسَدِه، ويأْتيهِ الملَكانِ فَيُجْلِسانِه ويَسأَلانِه، فإِنْ أَجابَ كانَ مُنَعَّماً في قَبْرِه، وإنْ لم يُجِبْ كان مُعَذَّباً. فنَعيمُ القبرِ أَو عَذابُه ليسَ للروحِ فقط، لكنَّه للروحِ مع الجَسَدَ. لكنَّ البرزخ من عالَمِ الغيب، ولا يُقاسُ بمقاييسِنا الماديةِ الدنيوية، فلو فَتَحْنا قَبْراً ماتَ صاحِبُه قبلَ عشراتِ السنين فلنْ نَجِدَ فيه جِسْماً ولا روحاً ، ولا نَعيماً ولا عَذاباً، ولن نَجِدَ فيه إِلا تُراباً، ولا يَعْني هذا أَنَّ صاحبَه صارَ تُراباً حقيقة، إِنما هو بروحِه وجَسَدِهِ في عالَمِ الغيب، وهو مُنَعَّمٌ أَو مُعَذَّبٌ في قبرِه، ويَعِيشُ حياتَه البرزخيةَ بانتظارِ قِيامِ الساعة!.
أَما حياةُ الشهداءِ عندَ الله، فقد ذَكَرَها القرآنُ في قولِه تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١)) .
وهذه الآيات ُ نازلةٌ بعدَ غزوةِ أُحُد، في السنةِ الثالثةِ من الهجرة، التي استُشْهِدَ فيها مَن اسْتُشْهِدَ من الصحابة، فأَخْبَرَ اللهُ أَهْلَهم عن حياتِهم.
وهذا ما أَكَّدَهُ وَوَضَّحَهُ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. روى مسلمٌ عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: سأَلْنا رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩)) .
فقال: " أَرواحُهم في جوفِ طَيْرٍ خُضرٍ، لها قناديلُ مُعَلَّقَةٌ بالعرش، تَسرحُ من الجنةِ حَيْثُ شاءَتْ، ثم تَأوي إلى تلك القناديل ".
وروى أَبو داود عن ابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما -، قال: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لما أُصِيْبَ إِخوانُكُم بأُحُد، جَعَلَ اللهُ أَرواحَهم في جوفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنهارَ الجنة، تَأَكُلُ من ثِمَارِها، وتَأَوي إِلى قناديلَ من ذَهَب مُعَلَّقَةٍ في ظِلِّ العرش فلما وَجَدوا طِيبَ مَأكَلِهِمْ ومَشْرَبِهم ومَقيلِهم، قالوا: مَنْ يُبَلغُ إِخوانَنا عَنّا أَنّا أحياءٌ في الجَنَّةِ نُرْزَقُ، لِئَلّا يَزْهَدوا في الجهاد، ولا يَنْكُلوا عندَ الحرب؟ فقالَ الله: أَنا أُبَلِّغُهُم عنكم! فأنزل قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا). وقد اعترضَ الفادي على كَلامِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، واعتبرَ جَعْلَ أَرواحِ الشُّهداءِ في أَجْوافِ طُيورٍ خُضْرٍ لا يَتفقُ مع كرامَةِ الإنسان. قال: " ونَحنُ نسألُ: إِنْ كانَ اللهُ خَلَقَ الإنسانَ على أَحْسَنِ تَقْويم، فكيفَ إذا ذَهَبَ إِلى الجنةِ يُنَزِّلُهُ مَنزلةَ الطير؟ ويَتناسَخُ الأشرارُ في النارِ إِلى قردةٍ وخَنازير، والأَبرارُ في الجنةِ إِلى طيورٍ وعصافير؟ ".
واعتراضُه يَدُلُّ على جَهْلِه وسَخافَةِ تَفْكيره، فلا يَدُلُّ حَديثُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على أَنَّ اللهَ يُحَوّلُ الشُّهداءَ من بَشَر إِلى طيورٍ وعَصافير، إِنما يَدُلُّ على أَنَ اللهَ يُكْرِمُهم بعدَ استشهادِهم، فلا يُبقي أَرواحَهم
مع أجسادِهم في الدنيا، وإنما يَستقدِمُها إِلى الجنة، ويَجعلُها في حواصلِ طيورٍ خُضْر، تتمتَّعُ في الجنةِ حيثُ شاءت، وتَسرحُ فيها بينَ أَنْهارِها وأَشْجارِها وثمارِها، وتأوي لَيْلاً إِلى قناديلَ مُعَلَّقَةٍ قي ظِلِّ العرش.
وهذا كُلُّهُ في الدنيا، فأَجسادُهم بَقِيَتْ في قُبورِهم، وأَرواحُهم هي التي اسْتَقْدَمَها اللهُ إِلى الجنة، فليسَ في الأَمْرِ تناسُخٌ ولا اسْتِنْساخ، ولا إِهانَةٌ واحْتقار للشهيد، بتحوِيلِه من إنسانٍ مُكَرَّمٍ إلى عُصفور!.
أَمَّا يومُ القيامة فإِنَ اللهَ يَبعثُ الشُّهداءَ كما يَبعثُ الناسَ الآخَرين، ويَسيرونَ إلى الموقفِ بأَرواحِهم وأَجسادِهِم، ثم يُدخِلُهم اللهُ الجنةَ برحمتِه، ويكونونَ فيها بَشَراً أَسْوياء، مُعَزَّزين مُكرَّمين، على أَرقى وأَكملِ الصُّوَرِ البشرية!!.