كتاب القرآن ونقض مطاعن الرهبان-الفصل الرابع نقض المطاعن اللاهوتية (ما معنى سجود الملائكة لآدم - عليه السلام -؟)

كتاب القرآن ونقض مطاعن الرهبان-الفصل الرابع نقض المطاعن اللاهوتية (ما معنى سجود الملائكة لآدم - عليه السلام -؟)
127 0

الوصف

                                                    الفصل الرابع نقض المطاعن اللاهوتية 

                                                   (ما معنى سجود الملائكة لآدم - عليه السلام -؟)

ذَكَرَ القرآنُ أَنَّ اللهَ عَلَّمَ آدمَ الأَسماءَ كُلَّها، ولما عَجَزَ الملائكةُ عن معرفِتها، عَرَفَها آدَمُ، فتميَّزَ عليهم بعلْمِه، ولذلك أَمَرهم اللهُ أَنْ يَسْجُدوا له.

قال تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣١) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٣٤)) .

وقد اعترضَ الفادي على هذهِ الآيات وخَطَّاَها، لأَنَّها تَتعارضُ مع توحيدِ اللهِ وعدْلِه! قال: " ونحنُ نسأَل: في أَوَّل الأَمْرِ عَلَّمَ اللهُ آدَمَ الأَسماءَ، ثم عَرَضَهم على الملائِكةِ فَعَجَزوا عن التَّسمية، واعْتَرَفوا بالعَجْز! فكيف يمتحنُ اللهُ الملائكةَ في ما لا يَعرفونَه، ويُعطي الإِجاباتِ لآدمَ ليَعْلَمَ ما لا يَعْلَمون؟ وكيفَ أَمَرَ الله ُ الملائكةَ أَنْ يَسْجُدُوا لآدَم؟ وحاشَ للهِ القُدْوسِ أَنْ يأْمُرَ بالسجودِ لغيرِ ذاتِه العلِيَّة! قال اللهُ في الخروج: لا تَسْجُدْ لإلهٍ آخَر، لأَنَّ الربَّ اسْمُه غَيور، إِلهٌ غَيورٌ هو ".

 واعتراضُه لا وَزْنَ له، فليسَ في الآيةِ ما يَدْعو للاعتراضِ والإنكار. أَرادَ اللهُ أَنْ يُبَيِّنَ للملائكةِ الحكمةَ من جعْلِه آدَمَ وذريَّتَه الخلفاءَ في الأَرض، مع أَنه قد يَصدُرُ عن هؤلاءِ الخلفاءِ إفسادٌ في الأَرضِ وسفَكٌ للدماء.

فلما طَلَبوا من الله أَنْ يُخْبرَهم بحكمةِ استخلافِ آدَمَ أَجْرى لهم ولآدَمَ الامتحان، الذي أَشارتْ له هذه الآيات، وهي مرتبطةٌ مع الآيةِ السابقة التي تَحَدَّثْنا عنها في المبحت السابق: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٠)) .

رَدَّ على سُؤالِهِم بأَنه يَعلمُ ما لا يعلمون، أَيْ أَنَّه يَعلمُ أَنه لا يَصلحُ للخلافةِ في الأَرض إلَّا هذا الخليفة، لِأَنه سيُزَوِّدُه بوسائلَ ومواهبَ وطاقاتٍ وقُدُرات، يتمكَّنُ بها من حُسْنِ الخلافةِ في الأَرض، وفي مقدمتِها العلمُ الذي وَهَبَهُ اللهُ إِياه، والنطقُ الذي مَكَّنَهُ منه، بحيثُ يَستطيعُ أَنْ يُعَبِّرَ عما في نفسِه، ويَرْمُزَ بالأَسماءِ للمسَمَّيات، والملائكةُ المسَبِّحونَ لله لا يَستطيعونَ ذلك، فالعلمُ والنطقُ والتفكيرُ والتعبير أُمورٌ ضروريةٌ للخلافةِ في الأَرض!.

عَلَّمَ اللهُ آدَم الأَسماءَ كُلَّها، وجَعَلَ فيه النطق، والقدرةَ على التعبيرِ عما في نفسِه، والرَّمْزِ بالأَسماءِ للمسَمَّيات، والملائكةُ لا يَعلمونَ ذلك، لأَنهم لا يَحْتاجونَ إِليه فِي مهمَّتِهم في عبادةِ اللهِ وتسبيحِه وبعد ذلك أَرادَ اللهُ أَنْ يُبَيِّنَ للملائكةِ الحكمةَ من استخلافِ آدم، وأَنه مَيَّزَهُ عليهم بالعلمِ والنطقِ والتفكيرِ والتعبيرفالموضوعُ ليس موضوعَ امتحانِ الملائكة بما لا يَعرفون، و" تَغْشِيشَ " آدمَ بتقديمِ الإجاباتِ له قبلَ دُخولِه الامتحان، كما فَهِمَ الفادي الجاهل، إنما الموضوعُ تَوجيهٌ وتَعليلٌ وبيانٌ للحكمةِ والعِلَّة، وهذا ما فهمَه الملائكة، ولذلك صَرَّحوا بعجْزِهم عن الجواب، لأَنَّ اللهَ لم يمنَحْهم ذلك العلم، وقالوا: (سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢)) .

ولما أنبأَهم آدَمُ بالأَسماءِ المطلوبة عَرَفوا حكمةَ استخلافِه في الأَرض، وذَكَّرَهم اللهُ بشمولِ عِلْمِه. قال تعالى: (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣)) .

أَما سجودُ الملائكةِ لآدمَ - عليه السلام - فهو ليسَ من بابِ السجودِ لغيرِ الله، ولا عبادةِ آدمَ من دونِ الله، ولا الشركِ بالله، كما فَهِمَه الفادي الجاهل، ثم اعترضَ عليه وخَطَّأَهُ وأَنْكَره.

إنه سجودٌ لله في الحقيقة، لأَنَّ الله هو الذي أَمَرهم أَنْ يَسْجُدوا لآدَم، أَيْ هو الذي كَلَّفَهم بذلك، ولو كان عبادةً لغيرِه لما أَمَرَهم به سبحانَه، لأَنَّ اللهَ لا يأذَنُ لأَيّ مَخْلوق أَنْ يَعْبُدَ غيرَه.

وعندما سَجَدَ الملائكةُ لآدَمَ كانوا عابِدينَ لله، وكان آدَمُ كَأَنه قِبْلَةٌ لهم في عبادتِهم لله، كما يُصلي أَحَدُنا صلاتَه لله، ويَجعلُ الكعبةَ قِبْلَةً له، فهو لا يَعَبُدُها ولا يَسجدُ لها، وإنما هي مجردُ قِبلَة، واللهُ أَمَرَه بالتوجُّهِ إِليها واستقبالِها، وهكذا كان آدمُ بالنسبةِ للملائكة لم يَكنْ سُجودُهم لآدمَ عبادةً له من دونِ الله، إِنما كانَ سُجودَ تكريمٍ وتَشريفٍ لآدَم، واعترافاً منهم بفَضْلِ آدَمَ عليهم، لأَنَّ الله مَيَّزَهُ عليهم بالعِلم.