كتاب القرآن ونقض مطاعن الرهبان-الفصل الرابع نقض المطاعن اللاهوتية ( موقف الملائكة من خلق آدم - عليه السلام)

كتاب القرآن ونقض مطاعن الرهبان-الفصل الرابع نقض المطاعن اللاهوتية ( موقف الملائكة من خلق آدم - عليه السلام)
109 0

الوصف

                                                    الفصل الرابع نقض المطاعن اللاهوتية 

                                                   (موقف الملائكة من خلق آدم - عليه السلام)

أَساءَ الفادي فَهْمَ آيةٍ تتحدَّثُ عن موقفِ الملائكةِ من خَلْقِ آدمَ - عليه السلام -، وهي قولُ اللهِ - عز وجل -: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٠)) .

ما معنى إِخبار اللهِ الملائكةَ أَنه جاعلٌ في الأَرضِ خليفة؟ وما معنى سؤالِ الملائكةِ عن الخليفةِ الذي سيفسدُ ويسفكُ الدماءَ؟ وما معنى إِخبارِهم عن أَنفسِهم أَنهم يُسَبِّحونَ اللهَ ويَحمدُونه ويُقَدِّسونه؟.

وقَفَ الفادي الجاهلُ أَمامَ الآية، وفَكَّرَ في هذه الأسئلة، فاعْتَبَرَها خطأً من أَخطاءِ القرآن! قال: " فلماذا يَستشيرُ اللهُ الملائكة، وهو غنيّ عن أَن يُشيرَ عليه أَحَد؟ وهل يُعْقَلُ أَنَّ الملائكةَ الأَبْرارَ يَعْصون، ويُعارضونَ رَغَباتِ الله، ويَدَّعونَ العلمَ بالغيب بغيرِ حَقٍّ، ويَطْعَنونَ في آدمَ من قَبْل خَلْقِه؟ ويُزَكّونَ أَنفسَهم بأَلسنتِهم؟ ".

فَهِمَ من قولِ اللهِ للملائكة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) أَنه يستشيرُهم، ويقولُ لهم: ما رَأْيُكُم؟ أَشيروا عَلَيَّ أَيها الملائكةُ، هل من المناسبِ أَنْ أَجعلَ في الأَرضِ خليفةً؟ ولذلك عَلَّقَ على ذلك بأَنَ اللهَ لا يَحتاجُ إِلى أَنْ يُشيرَ عليه أَحَد!.

والصحيحُ أَنَّ قولَ اللهِ للملائكة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ليسَ من بابِ استشارتِهم، لأَنَّ اللهَ سبحانَهُ لا يَحتاجُ إِلى مشورةِ أَحَد، لأَنَّه أَحاطَ بكلِّ شيءٍ علماً، وهو الأَعلمُ بالأَنسبِ والأَفضلِ والأَحكم، وكُلُّ فِعْلٍ يفعَلُه فهو صَواب!. إنَّ قولَه للملائكةِ من بابِ إِخبارِهم بما سيفعَلُه، ليكونَ عندهم علم وخَبَرٌ بما قررَ سبحانَه أَن يفعلَه، ولذلك جاءت الجملةُ بصيغةِ الجَزْمِ والقطعِ، حيثُ قالَ لهم: (إِنِّي جَاعِلٌ) ، ولم يقل: " إني سأجعل " ومن المعلومِ أَنَّ اللهَ يُخبرُ مَنْ شاءَ مِنْ خَلْقِه بما شاءَ أَنْ يَفعلَه، سواء كانَ المخلوقُ مَلَكاً مُقَرَّباً أَوْ نبيّاً مُرْسَلاً!!.

وفَهِمَ الفادي من سؤالِ الملائكة: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) : أَنه اعتراضٌ منهم على فِعْلِ الله، فهم يُنكرونَ على اللهِ فِعْلَه، ويُخَطِّئونَه في ما سيفعَلُه، وهذه معصيةٌ منهم لله، وتَمَرّدٌ عليه! فكيفَ يفعلونَ ذلك؟.

وهذا فَهْمٌ خاطئ مردود! فلم يكن سؤالُهم من بابِ الاعتراضِ والإِنكار، وإِنما كانَ من بابِ الاستفسارِ والاستِعلام، وكأَنَّهم قالوا: يا رَبَّنا: إِنّا نَعلمُ أَنك عليمٌ حكيم، وأَنَّ فِعْلَكَ هو الصواب، لكننا نريدُ منك أَنْ تُخبرنا عن

حكمةِ ذلك، فما حكمةُ جَعْلِكَ خليفةً في الأَرض، يُفسدُ فيها ويَسفك الدماء؟.

ولم يكن قولُهم عن آدمَ: (مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) طَعْناً في آدَمَ واتِّهاماً له قَبْلَ خَلْقِه، كما أَنه لم يكن ادِّعاءَ العِلْمِ بالغيب منهم، كما فَهِمَ الفادي الجاهل، فإِنَّه لا يَعلمُ الغيبَ إِلّا الله. وكلامُهم عن الخليفةِ أَنه سيُفسدُ في الأَرضِ ويَسفكُ الدّماءَ صحيح، بدليلِ إِقرارِ اللهِ له، ولو كانَ خَطَأً لأَخبرهم اللهُ أَنه خطأ، ولذلك اكتفى بقولِه لهم: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) .

أَيْ: أَنا أَعلمُ أَنَّ ذريةَ الخليفةِ سيُفسدونَ ويَسفكونَ الدماء، لكنَّ الخلافةَ في الأرضِ وتَعميرَها لا بُدَّ أَنْ يُصاحبَها إِفسادٌ وسَفْكٌ للدماء! *.

أَما كيفَ عَرَفَ الملائكةُ ذلك، فليس في مصادِرِنا الإِسلامية اليقينيةِ المتمثلةِ في القرآنِ وما صَحَّ من حديثِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ما يدلُّ على ذلك، ونحنُ لا نأخذُ شيئاً عن الإِسرائيليات، ولا نُفَسّرُ بها كلامَ الله!.

ولعلَّ الراجحَ أَنَّ كلامَهم عن إِفسادِ الخليفةِ ولسَفْكِه الدماءَ من بابِ الاستشرافِ وفراسةِ المؤمنين، فَهُمْ قد شاهَدوا مراحلَ خَلْقِ آدم، من الترابِ والطين.

ومعلومٌ أَنَّ الترابَ يَعْني الالتصاقَ بالأَرض والهبوطَ إِليها، والمخلوقُ من الترابِ قد تنحدرُ نفسُه إِلى الأَسْفَل، فيرتكبُ المُحرَّمات، ويُفْسِدُ ويَقْتُل!.

ولم يَقصد الملائكةُ من قولِهم: (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) أَنْ يُزَكّوا أَنفسَهم بأَلسنتِهم، كما فهمَ الفادي ذلك منه، كما أَنهم لم يكونوا طامِعين في أَنْ يَكونوا هم الخلفاء!.

كلّ ما يُؤْخَذُ من قولِهم أَنَّ اللهَ خَلَقَهم من نور، وفَطَرَهم على ذِكْرِه وتَسبيحِه وتقديسِه، ولعلهم قاسوا الأَمْرَ عليهم، فَفَهِموا أَنَّ كُلَّ مخلوقٍ سيخلُقُه اللهُ لا بُدَّ أَنْ يكونَ مثلَهم، لا يَعرفُ إِلّا ذِكْرَ اللهِ وتَسبيحَه، فكيفَ سيكونُ الخليفةُ مُهْتَمّاً بالعملِ في الأَرض؟!.

وبهذا نعرفُ أَنه ليسَ في الآيةِ التي اعترضَ عليها الفادي ما يَدْعو للاعتراض، وأَنْ تخطئَتَه لها بسببِ جَهْلِه!!.