كتاب القرآن ونقض مطاعن الرهبان-الفصل الرابع نقض المطاعن اللاهوتية (هل في القرآن أقوال للناس؟)
الوصف
الفصل الرابع نقض المطاعن اللاهوتية
(هل في القرآن أقوال للناس؟)
هل أَخَذَ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - القرآنَ من النّاس؟ وهل وَضَعَ فيه أَقوالاً للنّاس؟
هذا ما يؤكِّدُه الفادي المفترِي، ولذلك بَدَأَ اعتراضَه السادسَ والثمانينَ على القرآنِ بنَفْي كونِ القرآنِ وَحْياً من عندِ الله، قال: جاءَ في سورةِ المدثر: (إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥)) .
فقالَ محمد: إِنَّ قرآنَه وحيٌ من الله: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤)) .
وهذه مغالطةٌ من الفادي المفترِي، فآيةُ سورةِ المدَّثرِ التي سَجَّلَها، ذَكَرَ اللهُ فيها اتهامَ زعيمِ مكةَ الوليدِ بن المغيرةِ للقرآنِ بأَنه سِحْر، والآيةُ ضمنَ آياتٍ تتحدَّثُ عن حادثةِ الوليدِ واتِّهامِه، يَعرفُها الفادي عن يَقين، لكنَّه لم يُشِرْ إِليها.
وخلاصةُ حادثةِ الوليدِ بن المغيرة أَنَ زعماءَ قريشٍ اجْتَمعوا قُبيلَ موسمِ الحَجِّ، ليتَّفِقوا على كلامٍ موحَّد، يَقولونَه في القرآن، ليصُدّوا الناسَ عنه، فقالَ لهم الوليد: قولوا وأَنا أَسمع.
قال تعالى: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (١٢) وَبَنِينَ شُهُودًا (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (٢٧) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠)) .
فالذي قالَ عن القرآن: " إِنْ هذا إِلّا قولُ البشر " هو الزعيمُ القرشيّ الكافر، الوليدُ بنُ المغيرة، واعتمدَ الفادي المفترِي كلامَه، لأَنه يوافقُ هوىً في نفسه إ!.
قال تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٦)) .
وهَدَّدَ اللهُ بأَنه لن يسمحَ لأَحَدٍ أَنْ يَتقوَّلَ عليه، ويَنسبَ له ما لم يَقُلْه، حتى لو كانَ هذا الشخصُ هو رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: ( فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (٣٨) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (٤٧)) .
وقد نَسَبَ الفادي المفترِي خمسةَ أَقوالٍ لعُمر، وزَعَمَ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَها منه وأَثْبَتَها في القرآن.
قالَ عن القولِ الأَول: " مَرَّةً قالَ عُمر: يا رسولَ الله! لو اتَّخَذْنا من مَقامِ إِبراهيمَ مُصَلّى.
فجاءَ قرآنٌ يَقول: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) .
والروايةُ صحيحة، ومقامُ إِبراهيمَ هو الحجرُ الذي كانَ إِبراهيمُ - عليه السلام - يَقومُ ويَقفُ عليه وهو يَبْني الكعبة، حيثُ كانَ ابنُه إِسماعيلُ - عليه السلام - يُناولُه الحجارة، وكان هو يَقفُ على الحَجَر، وكان ذلك الحجرُ مُلْتصقاً بالكعبة، ثم أَبْعَدَه عمرُ عن الكعبة لئلا يَشُقَّ الطوافُ على الطائفين.
وقد اقترحَ عمرُ - رضي الله عنه - على رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُصلِّيَ الطائفون ركعَتي الطوافِ عندَ مَقامِ إِبراهيم، وهما ركْعَتا السنَّةِ اللَّتان يُصَلّيهما الطائفُ بعد الانتهاءِ من الطواف، فأَقَرَّه الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - على اقتراحِه.
وأَنزلَ اللهُ قولَه تعالى: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) . وهو يَدُلُّ على صحةِ اقتراحِ عمرَ - رضي الله عنه - وفطنتِه وبُعْدِ نَظَرِه.
وقالَ عن القولِ الثاني لعُمَر: " ومَرَّةً قالَ عمر: يا رسولَ الله! إِنَّ نِساءَك يَدخلُ عليهن البَرُّ والفاجر، فلو أَمرتَهن أَنْ يحتجبْنَ.
فجاءَ قرآنٌ يقول: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) .
والروايةُ صحيحة، دالّةٌ على بُعْدِ نَظَرِ عمرَ - رضي الله عنه -، فَرَغْمَ أَنَّ أَزواجَ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - مُحَرَّماتٌ على المسلمين، إِلَّا أَنَّ بعضَ المسلمين قد تَخطرُ لهم خواطرُ السوءِ نحوهن، ولذلك اقترحَ عمرُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يأْمرهن بالحجاب، لأَنه يدخلُ عليهنَّ البَرُّ والفاجر، وهذا من فَرْطِ غيرتِه عليهن.
وأَنزلَ اللهُ الآيةَ يأمُرُه بذلك، مما يدلُّ على صحةِ اقتراحِ عمر - رضي الله عنه -.
وقالَ الفادي عن القولِ الثالث: " ومَرَّةً اجتمعَ نساءُ محمدٍ في الغيرة.
فقالَ عمرُ لهنّ: عسى ربُّه إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَه أَزواجاً خيراً منكن. فجاءَ قرآنٌ يقول: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ) .
والروايةُ صحيحة، فقد اجْتمعَتْ أَزواجُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، واتَّفقْنَ على أَنْ يُطالبنَه بالتوسعةِ عليهن، وزيادةِ نفقتِهنَّ، فتألَّمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من مَطالبهن، فوعَظَهُنَّ عمرُ - رضي الله عنه - وذَكَّرَهُنَّ وهَدَّدَهُنَّ، وقالَ لهنّ: إِنْ طَلَّقَكنَّ فعسى ربُّه أَنْ يُبدلَه أَزواجاً خيراً منكُنّ.
فأَنزلَ اللهُ تعالى قوله: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ) .
وقال الفادي عن القولِ الرابع: " ومَرَّةً جاءَ قرآنٌ يَقول: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ) ... ، فقالَ عمر: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) ، فسجَّلَ محمدٌ قولَ عمرَ في القرآن: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (١٤)) .
وهذه الروايةُ أَوردَها الحاكمُ وابنُ مردويه وابنُ المنذر، لكنَّها لم تَصِحّ . فلا تُصَنَّفُ ضمنَ موافقاتِ عمر.
وقالَ الفادي عن القولِ الخامس: " ومَرةً لقيَ يهوديٌّ عمرَ بنَ الخطاب، فقالَ: إِنَ جبريلَ الذي يَذْكُرُه صاحبُكم عَدَوٌّ لَنا! فقال له عمرُ: مَنْ كانَ عدوّاً للهِ وملائكتِه ورسلِه وجبريلَ وميكال فإِنَّ اللهَ عدوٌّ للكافرين.
فَسَجَّلَ محمدٌ أَقوالَ عمر هذه بنصها: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (٩٨)) .
وهذه الروايةُ أَوردَها الحاكم، ولكنَّها لم تصح.
وموافقاتُ عمرَ التي نَزَلَت الآياتُ مُقَرِّرَةً لكلامِ عمرَ واقتراحِه، تَدُلُّ علي فَضْلِ ومنزلةِ وفطنةِ عمرَ - رضي الله عنه -، بحيثُ يُنزلُ اللهُ الآيةَ في اعتمادِ كلامِهِ والأَخْذ ومن هذا البابِ ما " حكاهُ " القرآنُ في قصصِه، ونَسَبَهُ لأُناسٍ من السابقينَ، من كلماتٍ وأَقوالٍ وحِوارات، حيث نَقَلَ ما قالوه بلغاتِهم السابقةِ غيرِ العربية بلسانٍ عربيٍّ مبين!!.
ولقد شَتَمَ الفادي المجرمُ القرآنَ والرسولَ - صلى الله عليه وسلم - في عباراتٍ استفزازية، مثل قولِه: " فَسَجَّلَ محمدٌ قولَ عمرَ في القرآن "، وقولُه: " فَسَجَّلَ محمّدٌ أَقوالَ عمرَ هذه بنَصها"..
وهو يَجزمُ في هذه العباراتِ بأَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو الذي صاغَ القرآنَ وأَلَّفَه، ونَقَلَ فيه من أَقوالِ الناس، ومنهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -!!.