كتاب القرآن ونقض مطاعن الرهبان-الفصل الثاني نقض المطاعن التاريخية (من هو المصلوب؟)
الوصف
الفصل الثاني نقض المطاعن التاريخية
(من هو المصلوب؟)
الْتَبَسَ على النَّصارى صَلْبُ عيسى - عليه السلام -، كما الْتَبَسَ على اليَهود. وحَلَّ القراَنُ الإِشكالَ، وأَزالَ اللَّبْسَ، لكنَّ النَّصارى لم يُصَدِّقوا القرآن.
قال الله - عز وجل -: (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٥٨)) .
واعترضَ الفادي على نَفْيِ القرآن قَتْلَ عيسى - عليه السلام - وصَلْبَه، واعتبرَه خَطَأً من أَخطاءِ القرآن، واستغربَ من إِنكارِ القرآنِ أَمْراً مُجْمَعاً عليه بينَ اليهودِ والنصارى واليونان والرومان.
ونُسجلُ اعتراضَ الفادي قبلَ أَنْ نفَنِّدَه: " لماذا ينكرُ القرآنُ صَلْبَ المسيحِ وقَتْلَه بأَيدي اليهود، مع أَنَّ اليهودَ يَعْترفون بذلك، والنصارى يُؤَكِّدونه ويَفْتَخرون به؟ والإِنجيلُ كُلّه هو خَبَرُ صَلْبِ المسيحِ والبشارةِ به، كَفادٍ للبشر؟.
ويذكُرُ القرآنُ في مواضعَ أُخْرى موتَ المسيحِ وقيامتَه، وارتفاعَه إِلى السماء.
كقوله تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) ، وفيه يَقولُ المسيحُ: (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) ، ويقولُ أَيضاً: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)) .
أَليسَ غريباً أَنْ يَجيءَ مَنْ يُنكرُ صَلْبَ المسيحِ بعدَ حدوثِه بستمئة سنة؟! " إِنَّ حادثةَ الصَّلْبِ حقيقةٌ تاريخية، سَجَّلَها اليونانُ والرومانُ واليهودُ والمسيحيون. وفي مجمع " نيْقية " الذي انعقدَ سنةَ (٣٢٥ م) كتبَ أَساقفةُ العالَم المسيحيِّ قانونَ الإِيمان، مُقَرّراً صَلْبَ المسيحِ لأَجْلِ خَلاصِنا، وهو القانون الذي يَتْلوهُ كُلُّ مسيحي في كُلّ كنيسة، في كلِّ مكانٍ وزمان! وآثارُ المسيحيينَ في القرونِ العشرين الفائتة في كُلِّ أَنحاءِ العالَمِ تحملُ شاراتِ الصليب؟ فكيفَ ينكرُ أَحَدٌ تاريخيةَ الصليب؟! ".
يُؤمنُ كُلّ النصارى أَن اليهودَ والرومانَ قَتَلوا عيسى - عليه السلام - وصَلَبوه، وأَنَ روحَه خرجَتْ على الصَّليب، وبعد ثلاثةِ أيامٍ من دفْنِه رُدَّتْ إِليه روحُه، فقام من قَبْرِه، وصَعَدَ إِلى السماء!.
وكانَ اليهودُ يَتَباهون ويَتَفاخَرون بقتْلِ عيسى - عليه السلام -، قال تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ) .
أَما النَّصارى فقد جَعَلوا الصليبَ جُزْءاً من عقيدتِهم ودينهم، والشعارَ المميزَ لهم عن باقي أَتْباعِ الأَدْيان، وَوَضَعوا الصليبَ في أَعناقِهم وعلى كنائِسهم وملابِسهم ومرافقِ حياتهم.
فإِذا نفى القرآنُ صَلْبَ عيسى - عليه السلام - نَفْياً صَريحاً فإِنَ النصرانيةَ تَتَهاوى من أَساسِها، ولذلك كَذَّبَ الفادي القرآنَ في نفيهِ صَلْبَ عيسى - عليه السلام -.
وعندَ النظرِ في كَلامِ القرآنِ عن الصَّلْب نَرى أَنه لم يَنْفِ الصَّلْبَ جملةً وتَفْصيلاً، وإِنما نفى صلبَ عيسى - عليه السلام -، وكَذًّبَ اليهودَ في ادعاءِ ذلك.
قال تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) ؟ فنفى أَنْ يَكونوا قَتَلوا عيسى - عليه السلام - أَوْ صَلَبوه.
ويُقررُ القرآنُ أَنَّ المختَلِفين في موضوعِ القتلِ والصلبِ من اليهودِ والنَّصارى في شكٍّ منه، لم يَصِلوا إِلى اليقين، لأَنهم لا يَنْطَلقونَ من العِلْم، وإِنما يَتَّبِعونَ الظَّنَّ، والظَّنّ لا يوصِلُ إِلى يَقين: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ .
ويؤكِّدُ القرآنُ مرةً أُخرى أَنهم لم يَقْتُلوا عيسى يَقيناً، لأَنَّ اللهَ العزيزَ الحكيمَ رَفَعَهُ إِليه: (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٥٨)) .
وتَدلُّ الجملُ القرآنيةُ السابقةُ على أَنَّ القرآنَ لم يَنْفِ الصلبَ مُطْلَقاً ، وإِنما نفى صَلْبَ عيسى - عليه السلام -، فاليهودُ والرومانُ أَرادوا صلْبَ عيسى - عليه السلام -، ولكنَّ اللهَ حَماهُ وعَصَمه منهم، ورفَعَهُ إِلى السماءِ حَيّاً بِجسْمِه وروحِه.
أَمّا هم فقد صَلَبوا رَجُلاً آخَر، وكُل ظَنَهم أَنه عيسى! فقالَ اليهود مُتَبَجّحين: إِنّا قَتَلْنا المسيحَ عيسى ابنَ مريمَ رسولَ الله.
معنى قوله تعالى: (وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) : شُبهَ لهم أَمْرُ الصلْبِ والقَتْل، والْتَبَسَ عليهم، وَوَقَعوا في لَبْسٍ وشَبَهٍ بشأنِه! وهذا معناهُ أَنهم قَتَلوا وصَلَبوا شَخْصاً مَشْبوهاً، وكلُّ ظَنَهم أَنه عيسى، مع أَنَ المقتولَ المصلوبَ لم يكنْ
عيسى، إنما كانَ شَخْصاً آخَر.
ومعنى قوله تعالى: (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ) : لم يقتل اليهودُ عيسى - عليه السلام - يَقيناً، ولم يكن الشخصُ المقتولُ المصلوبُ عيسى حقيقة، إِنما كانَ شَخْصاًاَخَرَ غَيْرَه، بينما كان عيسى - عليه السلام - في السماء!!.
وهذا معناهُ أَنَّ هُناكَ شخصاً مقتولاً مصلوباً، يَجزمُ اليهودُ والنصارى والرومانُ وغيرُهم أَنه المسيحُ عيسى ابنُ مريم رسولُ الله، ويَنفي القرآن الذي أَنزلَه اللهُ بعد ستمئة سنةٍ من الحادثةِ أَنْ يكونَ عيسى، ويُشيرُ إِلى أَنَّه شخصٌ آخرُ غير عيسى!! فمن هو هذا الشخصُ الآخَرُ المقتولُ المصلوب؟!.
لم يتحدَّثْ عنه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في حديثٍ صحيحٍ مرفوع، وذَكَرَ قَصَّتَه الصحابى الجليلُ عبدُ الله بن عباس - رضي الله عنهما -.
وهو أَصَحُّ ما جاءَ في مصادِرِنا الإِسلامية، بشأنِ الأحداث الخطيرة في تلك الليلة، ورواية ابن عباس تتفق مع حديث القرآن عن عدم قَتْلِ عيسى وصَلْبِه، وتُشيرُ إِلى شخصيةِ القَتيل.
ونسجل فيما يلي رواية ابن عباس، وتمهيد ابن كثير لها، وحديثه عن أحداث تلك الليلة المثيرة:
قالَ ابنُ كثيرٍ في تفسيره: " وكانَ من خبرِ اليهودِ - عليهم لَعائنُ اللهِ وسَخَطُه وغَضَبُه وعِقابُه - أَنه لما بَعَثَ اللهُ عيسى ابنَ مريم بالبيناتِ والهدى، حَسَدوه على ما آتاهُ اللهُ من النبوة، والمعجزاتِ الباهراتِ التي كان يُبرئُ بها الأَكْمَهَ والأَبرصَ ويُحيي الموتى بإِذْنِ الله .
فخالَفوه وكَذَّبوه، وسَعَوْا في أَذاهُ بكُل ما أَمْكَنَهم، حتى جعلَ نبيُّ اللهِ عيسى - عليه السلام - لا يُساكنُهم في بلدة، بل يُكثرُ السياحةَ هو وأُمُّه .
ثم لم يُقْنِعْهم ذلك حتى سَعَوا إِلى ملكِ دمشق في ذلك الزمان - وكانَ رَجُلاً مشركاً من عبدةِ الكواكب، وكانَ يُقالُ لأهْلِ مِلَّتِه: اليونان - وأَنْهَوْا إِليه أَنَّ في بيتِ المقدسِ رجلاً يَفتنُ الناسَ ويُضلُّهم، ويُفسِدُ على الملكِ رعاياه.. فغضبَ الملكُ من هذا، وكتبَ إِلى نائبِه بالقُدْس، أَنْ يَحتاطَ على هذا المذكور، وأَنْ يَصْلُبَه، ويَضَعَ الشوكَ على رأْسِه، ويكفَّ أَذاهُ عن الناس.
فلما وَصَلَ الكتابُ امتثلَ والي القدس ذلك. وذهبَ هو وطائفة من اليهودِ إِلى البيتِ الذي فيه عيسى - عليه السلام -، وهو في جماعةٍ من أَصحابِه، اثْنَيْ عشر رجلاً.
فلما أَحَسَّ عيسى بهم، وأَنه لا مَحالةَ من دخولِهم عليه، أَو خروجِه إِليهم، قالَ لأَصحابِه: أَيكم يُلْقى عليه شَبَهي، وهو رفيقي في الجنة؟.
فانتدبَ لذلك شابٌّ منهم، فكأَنه استصغَرَه، فأَعادَها ثانيةً وثالثة، وكل ذلك لا يَنْتِدبُ إِلّا ذلك الشّابّ .
فقالَ له عيسى: أَنتَ هوإ! وأَلقى اللهُ شَبَهَ عيسى عليه، فكأَنَّه هوإ!. وفُتِحَتْ " رُوزَنَة " من سَقْفِ البيتِ، وأَخَذَتْ عيسى - عليه السلام - سِنَة من النوم، فرُفعَ إِلى السماءِ وهو كذلك .
فلما رُفعَ عيسى من سَقْفِ البيت، خَرَجَ أُولئك النفرُ من البيت. فلما رأى اليهودُ والجنودُ ذلك الشابَّ ظَنّوه عيسى، فأَخَذوهُ فى الليل وصَلَبوه، وَوَضَعوا الشوكَ على رأْسهِ.
وأَظهرَ اليهودُ أَنهم سَعَوْا في صَلْبِه، وتَبَجَّحوا بذلك. وسَلَّمَ لهم طوائفُ من النصارى ذلك؟ لجهْلِهِم وقلةِ عَقْلِهم.ما عدا مَنْ كانَ في البيتِ مع المسيح، فإِنهم شاهَدوا رَفْعَه.
وأَما الباقونَ فإِنهم ظَنُّوا كما ظَنَّ اليهودُ أَنَّ المصلوبَ هو المسيحُ ابنُ مريم حتى ذَكَروا أَنَّ مريمَ جَلَسَتْ تحتَ ذلك المصلوبِ وبَكَتْ.
وهذا كلُّهُ من امتحانِ اللهِ لعبادِه، لما لَه في ذلكَ من الحكمةِ البالغة.