كتاب القرآن ونقض مطاعن الرهبان-الفصل الثاني نقض المطاعن التاريخية (أصحاب القرية والرسل الثلاثة)
الوصف
الفصل الثاني نقض المطاعن التاريخية
أصحاب القرية والرسل الثلاثة
أَخْبَرَنا اللهُ في القرآنِ بقصةِ أَصحابِ القريةِ مع الرسلِ الثلاثة الذين أُرسلوا إِليهم ليَدعوهم إِلى الله.
وخلاصَةُ تلك القصةِ أَنه كانَ أَهلُ قريةٍ من القرى كافِرين باللهِ، فأَرسلَ اللهُ إِليهم رجلَيْن رسولَيْن، ولما وَصلا إِليهم وَدَعواهم إِلى اللهِ كَذَّبوهُما، فَعَزَّزَهما اللهُ برسولٍ ثالث، وقامَ الرسُل الثلاثة بإِقامةِ الحُجةِ على أَهْلِ القَرية، ولكنَّهم لم يَسْتَجيبوا لهم.
وجاءَ رجل مؤمنٌ من أَقصى المدينة، مُؤَيّداً الرسلَ الثلاثةِ، ودَعا القومَ إِلى الإِيمان بالرسلِ وتصديقِهم والدخولِ في دينهم، وعبادةِ اللهِ وَحْدَه، لكنَّهم لم يَسْتَجيبوا له.
وأَمامَ إِصرارِ أَهْلِ القريةِ على الكفرِ والتكذيبِ والإِيذاء، حَقَّتْ عليهم كلمةُ الله، فأَوقعَ بهم العذاب كما ورد في الآيات (١٣ - ٢٩) من سورة يس.
وقد أَبهمَ القرآنُ تفصيلَ قصةِ أَصحابِ القرية، فلم يذكُر اسْمَها، ولا زمانَها، ولا مكانَها، ولا جِنسيةَ أَهْلِها، كما لم يبيِّن أسماءَ الرسلِ الثلاثة، ولا مَنْ أَرْسَلَهم، هل هم رسلٌ من اللهِ مباشرة، أم أَرسلَهم رسولٌ من عند الله، ولم يذكُرْ دِينَهم، ولا كيفَ وَصَلوا إِلى القرية، ولم يذكُر اسْمَ الرجلِ المؤمنِ الذي جاءَ يسعى ويَنْصُرُ الرسل، ولا تفاصيلَ ما جَرى بينَه وبينَ القوم، ولا كيفَ كانَتْ نهايةُ الرسلِ الثلاثة والرجلِ المؤمن، هل قُتِلوا أَوْ نَجَوْا، ولا كيفَ
كانتْ تفَاصيلُ الصيحةِ الواحدةِ التي أَخذَتْهم وأَهلكَتْهم وجعلَتْهم خامدين!!.
ولم يَرِدْ حديث صَحيحٌ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُفَسِّرُ بعضَ المبهماتِ في قصةِ أَصحابِ القرية، ويُوَضَحُ بعض التفاصيل، ولو وَرَدَ لَقُلْنا به.
فالواجبُ علينا أَنْ نبقى مع القرآنِ في حديثهِ عن القصة، ونسكتَ عن ما سكَتَ عنه، ولا نُبَيِّنَ بعضَ المبهماتِ التي أَبهمها القرآنُ عمداً!.
ولكنَّ كثيراً من المفَسِّرين لم يَفْعَلوا ذلك، وذَهَبوا إِلى الأَخبارِ والرواياتِ التي لم تثبت، والإِسرائيلياتِ التي تُفَصِّلُ الكلام، وفَسَّروا بها كلامَ الله، وبَيَّنوا بها المبهماتِ التي أَبهمها القرآن.
سورةِ يسَ، مما جعلَ الفادي ينتقدُه، ويُحَمِّلُ القرآنَ خَطَأَه!.
قال: (أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ) : القريةُ هي إِنطاكية.
(إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) : هم رسلُ عيسى - عليه السلام -.
(إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) : لأَنه فِعْلُ رسولِه وخليفتِه، وهما يَحيى ويونس، وقيل: غيرهما.
(فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ) : هو شمعون.
(فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) : وذلك أَنهم كانوا عبدةَ أصنام، فأَرسلَ إِليهم عيسى - عليه السلام - اثْنَيْن، فلما قَرُبا من المدينةِ رأَيا حبيباً النجار يَرعى غنماً، فسأَلَهما فأَخبراه، فقال: أَمعكما آية؟
فقالا: نَشْفي المريضَ، ونُبرئُ الأَكْمَهَ والأَبرص، وكان له ولد، فَمَسحاه فَبَ
قالا: نعم، مَنْ أَوجدَك وآلهتَك؟ رأ، فآمَنَ حَبيب، ففشا الخَبَرُ، وشُفيَ على أَيديهما خَلْق كثير.
وبَلَغَ حديثُهما إِلى الملك، فقالَ لهما: أَلَنا آلهة سوى أَصنامِنا؟
قالا: نعم، مَنْ أَوجدَك وآلهتَك؟
قال: حَتّى أَنظرَ في أَمْرِكما، فحبَسَهما ثم بَعَثَ عيسى شمعون، فدخَلَ مُتَنكراً، وعاشَرَ أَصحابَ الملك فأَنس به الملك، فقالَ له يوماً: سمعتُ أَنك حبستَ رجلَيْن فهل سمعْتَ ما يَقولان؟
قال: لا.
فَدَعاهما.
فقال شمعون: مَنْ أَرسلكما؟
قالا: اللهُ الذي خَلَقَ كُلَّ شيء، وليس له شريك.
فقال: صِفَاه وأَوْجِزا.
فقالا: هو يَفعلُ ما يشاءُ ويحكُمُ بما يُريد.
فقال: وما آيَتُكما؟
قالا: ما يَتَمنّى الملِك.
فدعا بغُلامٍ مَطموسِ العينَيْن، فدَعَوَا اللهَ حتى انشقَّ له بَصَرُه، وأَخَذا بُنْدُقَتَيْن، فوضَعاهُما في حَدَقَتَيْه، فصارا مقلَتَيْن ينظرُ بهما.
فقالَ شَمعون للملك: أَرأيتَ لو سأَلْتَ آلهتَك هل تصنَعُ مثلَ هذا؟
فقالَ الملك: لا أُخفي عنك سِرّاً، آلهتُنا لا تَسمعُ ولا تُبصر، ولا تَضر ولا تَنْفَع.
ثم قال: إِنْ قَدَرَ إِلهُكما على إحياءِ الميتِ آمَنّا به، فأَتَوا بغُلامٍ ماتَ منذُ سبعةِ أَيامِ، فدعَوَا الله، فقامَ حَيّاً، وقال: إِني أُدخلتُ سبعةَ أَوديةٍ من النار، وأنا أُحَذرُكُم ما أَنتم فيه.. فآمِنوا .
وقال: فُتحتْ أَبوابُ السماء، فرأيتُ شابّاً حَسَناً يشفعُ لهؤلاءِ الثلاثة فلما رأى شمعونُ أَن قولَه أَثّرَ في الملكِ نَصَحَه، فآمَنَ في جَمْع، ومَنْ لم يؤمنْ صاحَ عليهم جبريلُ فَهَلَكوا.
(وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى) .
هو حبيبٌ النَجار، وكان يَنحتُ أَصنامَهم، وهو ممنْ آمَنَ بمحمد، وبَيْنَهما ستُّمئة سنة وقيل: كانَ في غارٍ يَعْبُدُ الله، فلما بَلَغَه خَبَرُ الرسولِ أَتاهم وأَظهر دينَه..".
تُحَدِّدُ هذه الروايةُ الإِسرائيليةُ القريةَ بأَنها إِنطاكية، والرَّجلينِ الرَّسولينِ بأَنهما يحيى ويونس، وأَنَّ الذي أَرسلَهما هو عيسى، وأَنَّ الرسولَ الثالثَ المؤَيّدَ لهما هو شمعون.
وأَنَّ الذي جاءَ يَسعى من أَقصى المدينة هو حَبيبٌ النجار، وأَن حوارَهم كان مع ملكِ المدينة، وأَنهم قَدَّموا له الآياتِ من الشفاءِ والإِحياءِ حتى آمَن وقد اعترضَ الفادي على هذه الروايةِ الإِسرائيلية، وحَمَّلَ القرآنَ مسؤوليتَها، قال: " معلومٌ أَنَّ إِنطاكيةَ كانَتْ تحتَ حكْمِ الرومان، فكيفَ يقولُ القرآنُ: إِن لها مَلِكاً؟ ويقولُ البيضاوي: إِنَّ حبيباً النجارَ نَحّاتَ الأَصنامِ في إِنطاكية آمَنَ بمحمد، فهل من المعقولِ أَنْ يؤمنَ برسالةٍ جاءَتْ بعْدَه بستِّمئة سنة؟ ثم إِنَّه ليسَ مِن تلاميذِ مَنْ يُدْعى شمعون أو يونس؟ فشمعونُ هو ابنُ يعقوبَ بنِ إِسحاقَ بنِ إِبراهيم، ويونسُ أَو يونانُ هو أَحَدُ أَنبياءِ التوراة، الذي ابْتَلَعَه الحوت ".
ونحنُ لَسْنا مع البيضاويِّ في الروايةِ الإِسرائيليةِ التي ذَكَرَها، ولا نُفَسّ بها كلامَ الله، ونَبقى مع حديثِ القرآنِ عن قصةِ أَصحابِ القرية، لا نُضيفُ له أَيَ تفصيل.
وهذا معناهُ أَنَّ اعتراضَ الفادي على القرآنِ مَرْدودٌ من أَساسِه، لأَنَّ القرآنَ لم يَذكرْ أَنَّ القريةَ هي إِنطاكية، ولا أَنه كان يحكُمُها مَلِك، ولم يُسَمِّ الرسلَ الثلاثة: يحيى ويونس وشمعون، ولم يتحدَّثْ عن حبيبٍ النجار.
ولقد كانَ الفادِي متحامِلاً على القرآن، عندما حَمَّلَه خَطَأَ كلام البيضاوي، وادَّعى أَنَّ القرآنَ هو الذي قال: كان الملكُ يحكمُ إنطاكية! ومعلومٌ أَنَّ القرآنَ لا يتحمَّلُ مسؤوليةَ أَيِّ فهمٍ خاطئ له!!.