تصويبات في فهم بعض الآيات - نماذج لآيات حرَّفوا معناها: تصويبات في مفاهيم (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)

تصويبات في فهم بعض الآيات - نماذج لآيات حرَّفوا معناها: تصويبات في مفاهيم (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)
114 0

الوصف

                                                    نماذج لآيات حرَّفوا معناها: تصويبات في مفاهيم

                                                           (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)

قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.

تتحدث هذه الآيات عن مصدر القرآن، فتقرر أنه في كتابٍ مكنون، والكتاب هو اللوح المحفوظ، وأنه لا يمسه إلا المطهرون، لأنه تنزيل من رب العالمين.

وقد حمل كثيرٌ من الفقهاء الكتابَ المكنون على المصحف الشريف، والمطهرون على المسلمين الذين يلمسونه ويقرأون فيه.

ولهذا أصدروا فتوى عامة مضمونها: إنه لا يجوز للمسلم المحْدث حدثاً أصغر -أي غير المتوضئ- أن يلمس المصحف الشريف، ولا أن يقرأ القرآن. واستدلوا بهذه الآية. ووجه استدلالهم بها: أن المطهَّرين هم المسلمون المتوضئون، وطالما أن الآية تحصر لمس المصحف بهم، فإن غير المتوضئين غير مطهَّرين، ومن ثم فلا يجوز لهم مسّ المصحف.

ونرى أن هذا فهمٌ غير دقيق للآية، وتفسيرٌ غير مقبولٍ لها، ومن ثم فهو استدلال غير صحيحٍ منها. إن الآيات لا تتحدث عن المسلمين المتوضئين، ولكنها تتحدث عن مصدر القرآن، وعن طريقة توصيله لمحمد عليه الصلاة والسلام، وتبطل شبهات الكافرين حول ذلك.

فقد زعم الكفار أن الجن والشياطين هم الذين يؤلفون القرآن، ويوحون به للرسول عليه الصلاة والسلام، فهو كلام الشياطين وليس كلام الله! وقد أبطل القرآن هذه الشبهات ورد على هذه الأكاذيب في مواضع عديدة منه. من ذلك قول الله تعالى في سورة الشعراء: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ}.

ونفى أن تكون الشياطين هي التي أوحت به، في نفس سورة الشعراء فقال: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (٢١٠) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ}.

وآيات الواقعة -موضوع البحث- تتحدث عن نفس الموضوع، وتقرر أن القرآن في كتاب مكنون، وهو اللوح المحفوظ، وأن الشياطين والجن لن يصلوا إليه، لأنهم عن السمع معزولون -وإن الذين يلمسونه هناك ويحملونه، أو يوصلونه للرسول عليه السلام هم الملائكة- وجبريل عليه السلام على وجه الخصوص.

وحول معنى الآيات يقول الأستاذ الإِمام سيد قطب: " إنه لقرآن كريم، وليس كما تدّعون قول كاهن ولا قول مجنون، ولا افترى على الله من أساطير الأولين، ولا تنزلت به الشياطين ... إلى آخر هذه الأقاويل. وإنما هو قرآنٌ كريم، كريمٌ بمصدره، وكريمٌ بذاته، وكريمٌ باتجاهاته، في كتابٍ مكنون، مصون. وتفسير ذلك في قوله بعدها: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}، فقد زعم المشركون أن الشياطين تنزلت به، فهذا نفيٌ لهذا الزعم، فالشيطان لا يمس هذا الكتاب المكنون، في علم الله وحفظه، إنما تنزلت به الملائكة المطهرون.وهذا الوجه هو أظهر الوجوه في معنى {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} فـ (لا) هنا نافية لوقوع الفعل وليست ناهية. وفي الأرض يمس هذا القرآن الطاهر والنجس، والمؤمن والكافر، فلا يتحقق النفي على هذا الوجه، إنما يتحقق بصرف المعنى إلى تلك الملابسة. ملابسة قولهم: " تنزلت به الشياطين ".

 ونفي هذا الزعم، إذ لا يمسه في كتابه السماوي المكنون إلا المطهرون. ومما يؤيد هذا الاتجاه قوله تعالى بعد هذا: {تَنْزيلٌ مِنْ رَبِّ العالَمين}، لا تنزيلٌ من الشياطين ".

وسيد قطب ليس وحده الذي حمل كلمة (المطهرون) على الملائكة، بل إن الجمهور من الصحابة والتابعين والمفسرين والعلماء السابقين على هذا الرأي، وسيد قطب متابعٌ لهم في أقوالهم:

قال أنس بن مالك: الكتاب المكنون هو اللوح المحفوظ، والمطهرون هم الملائكة، المطهرون من الذنوب. وقال ابن عباس: الكتاب المنزل في السماء، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، أي الملائكة.

وعن علقمة التابعي قال: أتينا سلمان الفارسي رضي الله عنه، فخرج علينا من كِنٍّ له، فقلنا: لو توضأتَ يا أبا عبد الله، ثم قرأت علينا سورة كذا وكذا. قال: إنما قال الله: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}.

وهو الذي في السماء، لا يمسه إلا الملائكَة. ثم قرأ علينا من القرآن ما شئنا. 

وعن قتادة في قوله: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} قال: ذاكم عند رب العالمين، والمطهرون من الملائكة، فأما عندكم فيمسه المشرك والنجس والمنافق الرجس.

وعن أبي العالية قال: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}: الملائكة، ليس أنتم يا أصحاب الذنوب.

وعن مالك قال: أحسن ما سمعت فى هذه الآية {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}: إنها بمنزلة الآيات التي في عبس {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرَامٍ بَرَرَةٍ}.

وعن سعيد بن جبير قال: في كتاب مكنون: في السماء. إلاَّ المطهّرون: الملائكة.

الآية -موضوع البحث- ليست دليلاً على حرمة مس القرآن وحمله لغير المتوضئين، فننتقل للمصدَر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، إلى أحاديث رسول الله عليه السلام. هل هناك أحاديث صحيحة تمنع ذلك؟ هناك حديث عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه، عن جده أن النبي عليه السلام كتب كتاباً إلى أهل اليمن وكان فيه: " لا يمسّ القرآن إلا طاهر ". رواه الحاكم والبيهقي والطبراني والدارقطني.

لكنه ضعيف. قال الشوكاني في نيل الأوطار: " وفي إسناده سويد بن أبي حاتم، وهو ضعيف. وذكر الطبراني في الأوسط أنه تفرد به. وحسّن الحازمي إسناده. وقد ضعّف النووي وابن كثير وابن حزم حديث حكيم بن حزام، وحديث عمرو بن حزم ".

قال ابن كثير عن الحديث: " وهذه وجادة جيدة، قد قرأها الزهري وغيره. ومثل هذا ينبغي الأخذ به. وقد أسنده الدارقطني عن عمر وعبد الله بن عمر وعثمان بن أبي العاص، وفي إسناد كل منها نظر. والله أعلم ".

ونظراً لعدم صحة الأحاديث في حرمة مس المصحف للمحْدث حدثاً أصغر، ونظراً لكون الآية ليست في موطن النزاع، فإن الأمر يبقى على الإباحة.

لهذا نقول: لا يحرم. على المسلم غير المتوضئ مس المصحف وحمله والقراءة فيه، بل يجوز فعل ذلك كله، لعدم ورود نص يحرمه عليه ويمنعه منه، وإنْ كان الأوْلى والأفضل والأحسن له أن يكون متوضئاً، من باب توقيره واحترامه لكلام الله. ولكن فرق بين الكمال والفضيلة، وبين الوجوب والإلزام. ونختم كلامنا على تصويب فهم هذه الآية، بقولٍ رائعٍ للإِمام النووي في المجموع: " أجمع المسلمون على جواز قراءة القرآن للمحدث الحدث الأصغر، والأفضل أن يتوضأ لها. قال إمام الحرمين وغيره: ولا يقال قراءة القرآن للمحدث مكروهة، فقد صحّ عن النبي عليه السلام أنه كان يقرأ القرآن مع الحدَث ". والقراءة في كلام النووي شاملة للقراءة غيباً، والقراءة في المصحف نفسه.