تصويبات في فهم بعض الآيات - نماذج لآيات حرَّفوا معناها: تصويبات في مفاهيم (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ)
الوصف
نماذج لآيات حرَّفوا معناها: تصويبات في مفاهيم
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ)
قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
تقرر هذه الآية وجوب الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترتب على هذا الفلاح والنجاح والفوز، وتوجب على المسلمين أداء هذا الواجب، والقيام بهذه المهمة.
وقد ورد التكليف بهذه العبارة {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ ... }.
قد يقف أحدهم أمام العبارة، ويحاول أن يوظفها دليلاً على تهربه من القيام بهذا الواجب، باعتبارها لا تخصه هو، وإنما تخص مجموعة من المسلمين فقط.
تستوقفه كلمة " من " في العبارة، فيعتبرها بمعنى التبعيض، وتدل -عنده- على أن هذا التكليف واجبٌ على بعض المسلمين وليس على مجموعهم. لذلك تراه يقول: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس واجباً على كل مسلم، فإذا لم يقم به بعض المسلمين لا يكون تاركاً لواجب، ولا عرضةً للنار يوم القيامة. وإنما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجبٌ على مجموعةٍ من المسلمين -على حسب فهمه- وهم العلماء والشيوخ والموظفون في وظائف إسلاميةٍ رسمية، يقومون بهذا في الخطب والدروس والمحاضرات والندوات. أما هو وأمثاله فما لهم ولهذه المهمة الصعبة، والأمر الشاق؟ وهذا وأمثاله مخطئون في هذه النظرة، وهذا الفهم، وهذا الحكم، وهذه النتيجة. وهب أنّ " مِنْ " في الآية للتبعيض -كما قال بعض المفسرين- فلا تدل الآية على أن هذا الواجب على بعض المسلمين فقط، لورود آياتٍ أخرى صريحةٍ، توجبه على كل مسلم.
لقد اختلف المفسرون في معنى " مِن ":
فقال بعضهم إنها للتبعيض. أي لِيَقُمْ بعض أفراد الأمة بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وحجة هؤلاء في هذا: أن القيام بهذا الواجب له شروطٌ لا بد منها، فلابد أن يكون المسلم عالماً بما يأمر وينهى، ملمّاً بكثيرٍ من العلوم والمعارف والأحكام والقضايا، متّصفاً بكثيرٍ من الصفات الضرورية. ولا يتيسر هذا لكل مسلم، وإنما لمجموعةٍ مختارةٍ منهم.
وقال جمهور المفسرين إنها بيانية، ومعناها: كونوا أيها المسلمون جميعُكم، أمةً، يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وهذا التعبير واردٌ في الأساليب العربية. فقد تخاطب ابنك قائلاً: أريد منك رجلاً قوياً. وقد تخاطب أخاك قائلاً: ليكن لي منك أخٌ مخلص. وقد تخاطب طلاباً قائلاً: ليكن منكم طلابٌ مجدّون.
فالآية: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} لعامة المسلمين بهذا الواجب، وخطابٌ لكل مسلم ليقوم بهذا الأمر.
هذا وقد وردت آياتٌ صريحةٌ، تقرر وجوب هذا على كل مسلم: قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ}.
وقال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}.
وقال لقمان لابنه وهو يعظه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.
وقال تعالى عن المؤمنين الناجين من الخسران: {وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
فهذه الآيات مجتمعةً يؤخذ منها حكمٌ واحد، هو شمول هذا الواجب لكل مسلم ومسلمة. وهذه الآيات ترجح أن " مِنْ " في الآية -موضوع الكلام- للبيان وليست للتبعيض.
ولو كانت للتبعيض -كما قال الزمخشري في الكشاف- فإنها تتحدث عن مجموعةٍ مختارة في الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وعلى هذا الرأي لا بد أن نجمع بين هذه الآية وبين الآيات الأخرى التي توجب هذا الواجب على جميع المسلمين.
فنقول: هناك مجالان ملحوظان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله: مجال الدعوة العامة: وهذا واجبٌ على كل مسلم أينما كان، يذكّر بالله وينصح المسلمين، وإذا رأى منكراً أنكره، وإذا رأى معروفاً أثنى على صاحبه، وهذا ما نأخذه من الآيات الصريحة في إيجابه على الجميع.
ومجال الدعوة الخاصة: وهي الدعوة المتخصصة المتعمقة، التي يُشترط لها العلم والمعرفة، فيقوم بها المؤهَّلون من العلماء والدعاة، في خطبهم ودراساتهم وأبحاثهم ومحاضراتهم، وهذا نأخذه من آية آل عمران: {ولتكن عنكم أمة} - باعتبار أن " مِن " للتبعيض.
هذا ولا يلزم أن يكون كل مسلم ملمّاً بالعلوم والأحكام، بحيث نشترط هذا لقيامه بواجب الدعوة. فكل مسلم يدعو بمقدار جهده ومعرفته، وينشر من العلم ما اطلع عليه وتعلمه، ويبين للآخرين ما وصل إليه من أحكام الحلال والحرام.
وبهذا يتفاوت مقدار الواجب في الدعوة على المسلمين -بعد اتفاقهم في أصل الوجوب- فكلٌّ يدعو بالمقدار الذي يستطيعه، ويعلمه، ويقدر عليه.
المهم أن الدعوة إلى الله واجبةٌ على الجميع، والأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر تكليفٌ لكل مسلم ومسلمة. {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.