تصويبات في فهم بعض الآيات - نماذج لآيات حرَّفوا معناها: تصويبات في مفاهيم (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)

تصويبات في فهم بعض الآيات - نماذج لآيات حرَّفوا معناها: تصويبات في مفاهيم (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)

الوصف

                                                   نماذج لآيات حرَّفوا معناها: تصويبات في مفاهيم

                                                       (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)

قال تعالى:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.

ما أكثرَ ما يساءُ فهم هذه الآية في هذا الزمان، وما أكثر ما يساء الاستشهاد بها، وما أكثر ما يحرَّف معناها.

إننا نرى ونسمع كثيرين -ممن ركنوا إلى الظالمين وباعوا أنفسهم لهم- يريدون أن يبرروا لأسيادهم أعمالهم ومواقفهم، فيتوجهون إلى الآية، ويوظفونها لهذه الغاية.

يريد حاكمون أن يهادنوا أعداءهم من اليهود، ويختارون أن يفاوضوهم ويسالموهم ويصالحوهم، ويرفضون قتالهم وجهادهم، ويلغون الحل الجهادي والخيار العسكري القتالي، ويفتحون أبواب الحل السلمي والمفاوضات والمهادنة، ويرغبون في الصلح مع الأعداء، والتنازل لهم عن جزء من الأراضي المحتلة. ويَظْهرون على شعوبهم بهذا الاختيار، ويدعونهم كي يكونوا معهم فيه.

ويلجأ أناس ممن ركنوا إلى هؤلاء الحكام، وارتبطوا بهم، وباعوا أنفسهم ودينهم لهم -من حملة الشهادات الشرعية وأصحاب الوظائف الإسلامية الرسمية- إلى القرآن الكريم، يبحثون فيه، ويقلِّبون في سوره وآياته، لعلهم يجدون آيةً يحرِّفون معناها لخدمة أسيادهم، ويوظفونها شاهدةً على صواب أعمالهم.

وفي موضوع المصالحة للأعداء ومفاوضتهم ومهادنتهم يقولون: لقد وجدناها: إن هذه الآية -كما يزعمون- تدل على جواز الحل السلمي، وإلغاء الحل العسكري الجهادي، وتُبارك مفاوضة الأعداء اليهود، ومهادنتهم، والتنازل لهم عن بعض الأراضي.

وهذا تحريفٌ لمعنى الآية، وتأويلٌ مرفوضٌ لمفاهيمها، وتفسيرٌ باطلٌ لها.

ننظر أولاً في السياق الذي وردت فيه الآية.

قال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}.

لا يجوز فصلُْ الآية عن سياقها، حتى لا نخطئ في فهمها وتفسيرها، لأن النظر في السياق شرطٌ لصحة تفسيرها، وواجبٌ على من أراد حسن فهمها.

إنها آيةٌ ضمن مجموعةٍ من الآيات عن موضوع الحرب والجهاد، والعلاقات بين المسلمين والكفار: الكفار دواب. والكفار ينقضون عهودهم مع المسلمين في كل مرة، ولهذا يجب على المسلمين أن يقاتلوهم بقوةٍ وغلْظة وشجاعة، بحيث يوقِعون الرعب في قلوب الآخرين، ويشردونهم فلا يفكرون في قتال المسلمين. وإذا ما حاول الكفار نقض العهد مع المسلمين، فعلى المسملمين أن يُعلِموهم بإلغاء العهد معهم، وإعلان الحرب عليهم. وإن الكافرين لا يعجزون المسلمين ولا يغلبونهم.

وتطالب الآيات المسلمين بإعداد كل ما يقدرون عليه من ألوان القوة، وأساليب الجهاد، وأسلحة القتال، لمواجهة الأعداء، وبث الرعب في نفوسهم.

وهذا الإِعداد والاستعداد، وهذا القتال والجهاد، كفيلٌ بأن يجعل الكفار يائسين من الحرب، راغبين في المسالمة والمهادنة، طالبين للحل السلمي مع المسلمين، مظهِرين رغبتهم في مفاوضة المسلمين على إلقاء السلاح وترك القتال، والخضوع للمسلمين في ما يطلبون.

إنَّ الكفار لن يصلوا إلى هذا الأمر، إلا إذا قاتلهم المسلمون بغلظة وشجاعة، وحشدوا لهم كلَّ القدرات والطاقات، وأعَدوا لحربهم كل أساليب القوة.

فإذا أوصل المسلمون الكافرين إلى هذه النتيجة، ومال هؤلاء الكافرون للصلح، وجنحوا للسّلم، وتركوا القتال. فعلى المسلمين أن يجنحوا للسّلم، وأن يقبلوا الصلح.

لا تجيز الآية للمسلمين أن يبدأوا هم بالجنوح إلى السلم، وطلب الصلح، وإنما تُجيز لهم أن يَقبلوا جنوحَ الكافرين للسلم وطلبهم للصلح.

على الكافرين أن يبدأوا بالجنوح ويخطوا الخطوة الأولى، وعلى المسلمين أن يقبلوا ذلك ويخطوا الخطوة الثانية.

وهذا ما نأخذه من صياغة الآية: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها}، حيث جاءت جملةً شرطية، وجواب الشرط دائماً مترتبٌ على فعل الشرط.

{جنحوا للسلم} فعل الشرط، والذين يقومون بالفعل هم الكفار.

{فاجنح لها} جواب الشرط، والذين يقدِّمون الجواب هم المسلمون.

ولا يمكن أن نأخذ من الآية أن يبدأ المسلمون بطلب الصلح والجنوح للسلم -كما يريد أن يفهم ذلك بعض المحرِّفين لمعاني القرآن-

والجُنوح هو الميل كما قال الراغب: {وَإنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها}، أي مالوا. من قولهم: جنحت السفينة، أي مالت إلى أحد جانبيها.

وهناك لفتةٌ لطيفةٌ في جعل الدعوة إلى الصلح والجنوح إلى السلم، بيد الكفار، وذلك لأن الذي يوجّه هذه الدعوة، ويميل إلى المسالمة، ويعدل عن الجهاد والقتال، يكون -غالباً- في موقف الضعيف العاجز عن القتال والجهاد، وهذا الضعف قد يقود إلى الذلة والهزيمة. كما أن نتيجة مسالمة هذا الجانح للسلم ومفاوضته مع خصومه، تجعله -غالباً- في موقف الخنوع والخضوع، وتوصله -غالباً- إلى الذلة والمهانة، والاستسلام للخصم، والاستجابة لطلباته.

ولأجل هذه المعاني كلها تَنهى الآية المؤمنين عن البدء بالدعوة إلى السلم، والجنوح إليه. أما إذا جنح الكفار لذلك، وعرف المسلمون حالتهم التي أمْلَت عليهم المسالمة، فعلى المسلمين أن يجنحوا لها، وأن يحققوا ما يريدون عن طريق السلم والمفاوضة والمصالحة والمهادنة، لأن الكفار جاؤوا مسالمين مستسلمين خاضعين.

وإذا ما نظرنا في ورود هذه الكلمة " السَّلم " في القرآن، فإننا نرى أنها لم ترد إلا في موضعين: الموضع السابق: {وِإنْ جَنَحوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها} حيث تجعل البدء بالدعوة إلى السلم للكفار، لما قلناه.

الموضع الثاني: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}.

وهذه الآية تنهى المسلمين عن البدء بالدعوة إلى السَّلم، وتجعل هذا نتيجةً للوهن والضعف والهوان، فلا يجوز للمسلمين أن يكونوا كذلك، ولا أن يدعوا إلى المسالمة والمهادنة، يجب أن يكونوا دائماً متفوّقين غالبين، يشعرون بأنهم الأعلون، لأن الله معهم.

وبالنظر في الآيتين نخرج بما قلناه: لا يجوز أن يدعو المسلمون إلى السلم والمسالمة، لأنها دليل الضعف والهوان، أما إذا ضعف الكافرون، ودعوا إلى ذلك، فعلى المسلمين الاستجابة، وإملاء شروطٍ على الكافرين، وإخضاعهم لما يريدون.

ومن باب الفائدة نقدم هذه اللطيفة من لطائف التعبير القرآني: ورد في القرآن ثلاث كلمات: السِّلْم، السَّلْم، السَّلَم.

السِّلم ورد مرة واحدة. في قوله تعالىِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}.

فالمراد بالسِّلم الإسلام، حيث تطلب الآية من المؤمنين أن يدخلوا في الإِسلام جميعاً بجميع حياتهم، وأن يلتزموه عملياً وسلوكياً وحياتياً.

أما السَّلْم فقد ورد مرتين:{وَإنْ جَنَحوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها} و {فَلا تَهِنوا وَتَدْعوا إلى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْن}.

والمراد بالسَّلْم هو المسالمة، والخضوع الناتج عن الضعف والذل والجبن والهوان، وهذا لا يجوز أن يقوم به المؤمنون، بل المفروض أن يقوم به الكافرون.

وأما السِّلَم: فهو الاستسلام التام الكامل.

وفي موضوع المواجهة بين المسلمين والكفار، السَّلَم هو نتيجةٌ طبيعيةٌ للدعوة إلى السَّلْم. فطالما مُنع المسلمون من الدعوة إلى السَّلْم فلا يجوز أن يقعوا في السَّلَم، وطالما هذه الدعوة إلى السَّلْم صادرةٌ عن الكفار، فيجب أن نوصلهم إلى السَّلَم، وأن تكون نتيجة دعوتهم إلى السَّلْم، أن يكونوا مستسلمين لنا استسلاماً تاماً كاملاً.

قال تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا}.