تصويبات في فهم بعض الآيات - نماذج لآيات حرَّفوا معناها: تصويبات في مفاهيم (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا ...)
الوصف
نماذج لآيات حرَّفوا معناها: تصويبات في مفاهيم
(وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا ...)
قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ}.
تشير هذه الآية إلى شدة عداوة اليهود للذين آمنوا، وتقرنهم في هذه العداوة مع المشركين.
كما تشير إلى فئة من النصارى هي أقرب الفئات للمؤمنين، وأن هذه الفئة منها القسيسين والرهبان. لكن مَنْ هي هذه الفئة التي مدحتها الآية؟ وعلى من تنطبق؟.
يتدخل هنا النصارى -وبخاصة قساوستهم ورهبانهم- ليموِّهوا على المسلمين ويخدعوهم، ويقدموا لهم فهماً محرَّفاً مغلوطاً للآية، فيزعمون أنها تعنيهم وتشير إليهم وتنطبق عليهم.
كم سمع المسلمون -أو قرأوا- لراهبٍ أو خوري أو نصراني عادي، وهو يقدم التفسير المشوه المحرف للآية، عندما يطبقها على نصارى هذا الزمان.
النصارى العرب الذين يزعمون أنهم يكنون للمسلمين العرب كل المودة والرحمة والبر والإحسان.
والعجيب هو أن يسمع المسلمون -أو يقرأوا- هذا الكلام الخاطئ والتفسير المغلوط من مسلمٍ يزعم أنه يخدم دينه وأمته. ويزداد هذا العجب إذا صدر هذا الكلام عن بعض حملة العلم من المسلمين، ممن يحملون شهاداتٍ علمية عليا، ويتزيَّوْن بأزياء العلماء التقليدية، ويشغلون مراكز إسلامية رسمية حكومية رفيعة.
لكن ماذا نقول لعصر التزوير والتحريف والتبديل والتغيير الذي نعيش فيه؟ والذي عدا على هذا الدين فيه، كل عدوٍ أو حاقدٍ أو جاهلٍ أو مغرضٍ، أو تاجرٍ بدينه، متقربٍ للظالمين والكافرين، وتوجّه هؤلاء للقرآن والإسلام محرفين مزورين.
إن الآية تقرر أن هناك فئةً من النصارى هي أقرب الناس مودة للذين آمنوا. وهذه الفئة لها ملامح وسماتٌ خاصة، ذكرتْها آياتٌ أخرى بعدها.
فلا بد من قراءة الآيات مجتمعة، والخروج بفهمٍ دقيقٍ لها. وحتى يكون الفهم صائباً لا بد من الوقوف على سبب نزول تلك الآيات.
نورد أولاً الآيات الأخرى المكملة لملامح النصارى الممدوحين فيها: قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثَابَهُمُ اللهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}.
إن النّصارى الذين تُثني عليهم الآيات هم الذين قالوا إنا نصارى، وهم القساوسة والرهبان، الذين لا يستكبرون، الذين يفتحون آذانهم لسماع القرآن، الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما يسمعون القرآن يعرفون أنه الحق من الله، ونتيجةً لهذا نرى أعينهم تفيض من الدمع.
وهم يختمون هذه الخطوات بالخطوة الأخيرة ويحققون الثمرة الطبيعية، والنتيجة المنطقية لما سبق، فيستسلمون لربّ العالمين استسلاماً عملياً، ويدخلون في الإسلام، ويقولون: {رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ}.
إنهم يصبحون مسلمين، متبعين للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وبهذا يأخذون نصيبهم من رحمة الله ونعيمه وثوابه: {اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ}.
فهل النصارى الذين يستشهدون بهذه الآيات -على أنها تمدحهم وتُثني عليهم، وتعتبرهم من أقرب الناس مودةً للمؤمنين- يحققون في حياتهم شروطها، ويتصفون بالصفات التي تقررها؟.
لا بد أن يفعلوا ما توضحه الآيات، وأن يخطوا كل ما تحدِّده من خطوات:
١ - أن يكونوا متواضعين غير مستكبرين.
٢ - أن يحرصوا على الاستماع إلى القرآن النازل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
٣ - أن يعرفوا أنه الحق، وأن يوقنوا بأنه من عند الله.
٤ - أن تفيض أعينهم من الدمع تأثراً وخشوعاً.
٥ - أن يدخلوا في الإسلام قائلين: ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين.
فإذا لم يقوموا بهذه الخطوات -وبخاصة الخطوة الخامسة والأخيرة منها- فلا يجوز لهم التحريف والتغيير لمعاني الآيات، ولا التلاعب فيها والتمويه على المسلمين.
وقد أجمع العلماء على أن الآيات نزلت بشأن مجموعةٍ معينةٍ من النصارى، اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلوا في دين الإسلام.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في هجرة الصحابة إلى الحبشة بقيادة جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - وبعث قريش وفداً إلى النجاشي ليستعدوه على المهاجرين ويعيدوهم إلى مكة، وطلب النجاشي للمسلمين المقابلة: فلما دخلوا عليه سلّموا، فقال الرهط من المشركين: ألم تر أيها الملك، إنا صَدَقناك، إنهم لم يحيوك بتحيتك التي تُحَيِّي بها؟ فقال لهم: ما يمنعكم أن تحيوني بتحيتي؟ قالوا: إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة، فقال لهم: ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ قالوا: يقول: عبد الله ورسوله، وكلمةٌ من الله، وروحٌ منه، ألقاها إلى مريم. ويقول في مريم: إنها العذراء الطيبة البتول.
فأخذ عوداً من الأرض فقال: ما زاد عيسى على ما قال صاحبكم هذا العود. فكره المشركون قوله، وتغيَّر لون وجوههم.
فقال: هل تقرأون شيئاً مما أُنزل عليكم؟ قالوا: نعم. قال: فاقرأوا. وحوله القسيسون والرهبان وسائر النصارى. فجعلت طائفة منهم كلما قرأوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق. فأنزل الله هذه الآيات ..
وأخرج النسائي وابن جرير عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت هذه الآيات في النجاشي وأصحابه.
وقال عطاء: هم ناس من الحبشة، آمنوا إذ جاءهم المهاجرون.
وقال سعيد بن جبير: هم رسل النجاشي، الذين أرسلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بخبر إسلامه وإسلام قومه.
وقال قتادة: هم أناس من أهل الكتاب، كانوا على شريعةٍ من الحق مما جاء به عيسى عليه السلام، يؤمنون به وينتهون إليه. فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم صدّقوه وآمنوا به، وعرفوا ما جاء به من الحق أنه من عند الله، فأثنى عليهم بما تسمعون.
وحول حقيقة هؤلاء النصارى الصالحين، نورد مقتطفاتٍ من كلامٍ رائعٍ للإمام الشهيد سيد قطب في الظلال:
ومع أن متابعة مجموع الآيات، لا تدع مجالاً للشك في أنها تصور حالةً معينةً، هي التي ينطبق عليها هذا التقرير المعين. فإن الكثيرين يخطئون فهم مدلولها، ويجعلون منها مادةً للتميع المؤذي، في تقدير المسلمين لموقفهم من المعسكرات المختلفة، وموقف هذه المعسكرات منهم.
وبعد أن يبين ملامح النصارى المعنيين بالآيات يقول: وليس كل من قالوا: إنهم نصارى إذن داخلين في ذلك الحكم {وَلَتَجِدَنً أَقْرَبَهُمْ مَوَدًةً لِلذينَ آمَنوا} كما يحاول أن يقول من يقتطعون آيات القرآن دون تمامها. إنما هذا الحكم مقصورٌ على حالةٍ معينة، لم يَدع السياق القرآني أمرها غامضاً، ولا ملامحها مجهولة، ولا موقفها متلبساً بموقف سواها في كثير ولا قليل.
ثم يقول: هذا ما ينبغي أن يعيه الواعون اليوم وغداً. فلا ينساقوا وراء حركات التمييع الخادعة أو المخدوعة، التي تنظر إلى أوائل مثل هذا النص القرآني، دون متابعةٍ لبقيّته، ودون متابعةٍ لسياق السورة كله، ودون متابعةٍ لتقريرات القرآن عامة، ودون متابعةٍ للواقع التاريخي الذي يصدِّق ذلك كله.